تفاصيل

الثلاثاء - 09 يونيو 2020 - الساعة 05:05 م بتوقيت اليمن ،،،

مدى الثقافي/ تغريد عبد العال *:


لم تكن فريدا كالو ترسم أحلاما كما تقول، إنما كانت ترسم الواقع، وهنا يصير الفن سيرة ذاتية وتاريخية عن الذات والجماعة في وقت واحد، ويكون الماء الذي رسمته فريدا في لوحتها الشهيرة "ماذا أعطاني الماء" مرآة واقعية لما حدث لها ومن حولها من أحداث.

كان فن فريدا كالو بمثابة سيرة ذاتية عن حياتها، وهذا كان نادرا في عالم الفن، حيث كان واضحا أن فريدا ترسم حياتها خطوة خطوة، وهذا ما عبرت عنه المؤرخة كلوديا شيفر التي درست حياة فريدا وأرختها في سيرة ذاتية سمتها الحب المقدس والمدنس في حياة فريدا كالو. كانت حياة فريدا بمثابة أحداث مؤلمة بدأت بإصابتها بشلل بوليو، ثم بالحادث الذي تعرضت له وأفقدها القدرة على المشي، ثم استعادت بعد ذلك حيويتها وتزوجت الفنان دييغو ريفيرا الذي يعتبر أيضا من اهم الفنانين المكسيكيين آنذاك، ثم طلاقها منه فيما بعد. كل تلك الحوادث وأكثر، جعلت صاحبة لوحة "الفريدتان" أكثر الفنانات شهرة في القرن العشرين. فهل تتقاطع كثيرا السيرة الذاتية مع الفن، وهل الفن بحد ذاته سيرة ذاتية للفنان، ليدخل اللوحة وينحت فيه حياته؟ أقرأ الكثير من الأسئلة وأنا أنظر للوحة فريدا كالو "ماذا أعطاني الماء"، فكأنما الفنانة تسأل ماذا أعطاني الفن؟ وإلى أي درجة استطعت أن أجعل الواقع يتحدث من خلاله؟

ومع أن لوحة "ماذا أعطاني الماء"، 1938، سبقت لوحة "الفريدتان" بعام، الا أن فريدا تبدو وكأنها تريد هذه المرة أن لا ترى وجهها في الماء، بل قصتها، التي غاب عنها وجهها وحضرت فيها وجوه الآخرين. وثمة بركان ما في الداخل ينذر بقيام صراع داخلي بين كل تلك الأحداث، التي لا تقتصر على ظروف حياتها، أو على معركتها كأنثى في الداخل والخارج، بل على تلك الأحداث السياسية للبلاد في ذاك الزمن. وهنا تشير فريدا إلى أن ذاتها التي تراها في الماء هي مجموعة أحداث جعلتها تتطور حتى تصبح هي، وبذلك تكتمل حكاية "الفريدتان" التي سترسمها بعد عام.

تظهر قدما فريدا وهما ترتفعان عن الماء قليلا، بينما تطفو حياتها في الماء، ولا يظهر وجهها الذي اعتدنا على النظر إليه كما في لوحاتها الأخرى، حيث يغطي البركان إحدى قدميها، وتكون إحدى ضحاياه الشجرة والطير وامرأة ورجلًا هاربين إلى الأمام. وفي هذه اللوحة أيضا تجيب فريدا نفسها أن الماء أعطاها القدرة على الرؤية جيدا، ولأن الماء هو الفن أيضا، فها هي فريدا تنظر بعمق، وترى حكايات في الأسفل، حكايات تتصل ببعضها وتتصاعد، وهذا هو وجهها الحقيقي، التي لم ترسمه بشكل مباشر هذه المرة.

وفي "الفريدتان"، هناك مسافة بين الشخصيتين، رغم أن الخلفية هي ذاتها، سماء ملبدة بالغيوم، لكن الفريدتين تقتربان قليلا من بعضهما، وتضع الأولى يدها في كف الثانية، ويتواصل قلباهما عبر شريان سري. وهنا نسأل ذاك السؤال السريالي: هل تتواصل الفريدتان عبر القلب فقط أم الحكاية؟ ولعل الاختلاف في نوعية الملابس والطريقة التي تتعامل فيها الفريدتان مع نفسيهما تختلفان، فواحدة تحمل صورة ريفيرا والثانية تجرح نفسها. قد تختلف الحكاية كل مرة كما ترسم فريدا لكن قوة الحب هي الطاقة التي تتواصل فيها فريدا مع نفسها. تعطي فريدا قوة السرد لرسمها، فتسرد القصص داخل لوحة واحدة، لكننا نؤول كل ما نحب في اللوحة الواحدة.

كل أعمال فريدا تتمحور حول حياتها، لكن هذا لا يعني أن القصة الشخصية لا يمكنها أن تكون حكاية مشتركة مع الآخرين، وفي سيرتها التي رسمتها، قصص لامتناهية عن حوارها الداخلي مع الألم ومع الذات، إنها ليست بورتريه لشخصيتها فقط بل مرآة لما هو أعمق وهو سيرتها، ومن هناك تدعو الرسامة رموزا كثيرة للألم والحب والموت، حيث ننظر معها في الماء ونرى أنفسنا.

* ضفة ثالثة