تفاصيل

الأحد - 14 يونيو 2020 - الساعة 03:49 م بتوقيت اليمن ،،،

مدى الثقافي/ رشيد سكري*:


يظهر منذ بداية القرن العشرين، أن النظريات التي اهتمت بالأدب، كانت تمدّ جسور التواصل بين المؤلف والنص، على اعتبار، أن الأخير عبارة عن أشكال ورموز وإشارات. إن النص، بهذا المعنى والبناء، يستطيع أن يجسد الإسقاطات الذاتية للمؤلف. فمهما حاول الكاتب أن يتملص من هذه الخاصية، يجد نفسه يتمرغ في تأويل النص الأدبي، بل يصبح ناقدا من الدرجة الأولى، من خلال فك رموز النص وشيفراته، استنادا إلى الرؤية التي تبوصل عمل الكاتب أو المؤلف.

بعيدا عن التأويل، قريبا من النص، يصبح الكاتب في هذا المستوى، مجرد ناقل لتجاربَ تستكملُ دورتها، هجرة يخضع لها النص. وبذلك، تغدو هجرة النصوص في الأدب ثقافة حديثة، تقاطعت مع العديد من العلوم، لتأخذ حيزا في النقد والتأويل والبحث الأدبي. فمن بين أهم العلوم، التي استندت إليها هذه الهجرة ـ أي هجرة النصوص ـ نجد علم النفس بالدرجة الأولى، حيث جعلت للمؤلِف مكانة رفيعة في هذا التفاعل البناء. إن من بين أهم التعابير، التي تؤشر لهذا العبور الآمن، إلى ضفاف الإبداع، نخص بالذكر «لاشعور النص» و«لاوعي النص».

هذه القيم الجديدة لم تنبثق في ساحة الأدب عامة، والنقد خاصة، إلا عبر دراسات نفسانية لكتب أدبية، كان لها وزن في الثقافة، بل غيرت مسار الدراسات العلمية التي تعنى بالإنسان كظاهرة كونية. وعندما نذكر علم النفس لا بد أن نستحضر المؤسسين لهذا العلم، الذين أقدموا، بكل جرأة وشجاعة، على تشريح النفس الإنسانية، وأرغموها على أن ترضخ للعلم الإكلينيكي السريري. فمع سيغموند فرويد وجاك لاكان وجان بيلمان نويل وغيرهم، سافر الأدب والتحليل النفسي ليرتاد عوالم أثيلة، تبحث في نقاط الائتلاف والاختلاف، بين الناقد النفساني والناقد الأدبي، ومن ثم أصبح لاوعي النص صورة يعتمد عليها الأدب في التحليل. فضلا عن أن التحليل النفساني، حسب فرويد، يحافظ على جوهر الأدب، يضمن له الاستقرار، وينشد له الاستمرار. وفي السياق ذاته، فسح التحليل الفرويدي، بداية العشرية الأولى من القرن العشرين، الباب على مصراعيه للمنهج البنيوي، من خلال تناوله بالدرس والتحليل رواية «غراديفا» للروائي الألماني ويلهلم جونسون، حيث لم تعد يثير فضول الناقد والباحث، لا حياة الأديب وتاريخه، ولا الظروف الاجتماعية، التي بلورت حس الإبداع لديه. إننا، كما يقول الباحثون، أمام موجة جديدة من دراسات تبحث من خلال النص، عمَّا لم يقله النص ذاته.

وعلى النقيض من ذلك لم يكن الطريق سالكا وآمنا أمام استكناه أغوار الشخصيات، عبر ما تثيره من أحلام وهذيان، وإنما ظل النص الأدبي مستغلقا، بحاجة ملحة إلى مزيد من اكتشافات منهجية، بهدف استجلاء الغامض فيه.
جرت تحت الثالوث، «النص، المؤلف والقارئ»، مياه كثيرة. فلم يكن مقال «موت المؤلف» لرولان بارت القشة، التي قصمت ظهر البعير، وإنما هو مدعاة إلى حوار بناء بين النص الأدبي وقرائه. فمما سبق يظهر أن فرويد، رغم الانتقادات الحادة التي تعرض لها، بفعل تشريحه لأحلام المؤلف وهذيانه وميوله النفسية، استنادا إلى المعجم الموظف في العمل الروائي، إلا أنه اعتبر إرهاصا حقيقيا، يدفع في اتجاه التفاعل الداخلي للناقد مع الأثر الأدبي، علاوة على ذلك استطاع أن يخلع عباءة الذاتية المتسلطة للكاتب في كل المراحل التي يمر منها الإبداع. فـ«موت المؤلف» جعل الدراسات الأدبية تنظر إلى اللفظ والمعنى، وإلى البناء الداخلي للأثر الأدبي، ما دفع بالمفكر الألماني روبرت ياوس إلى توظيف عبارات تليق بالمرحلة الجديدة من الدراسات الأدبية ألا وهي، «جمالية التلقي»، التي استندت إلى الأدب المقارن، وإلى السبل الجديدة لتلقي الخطاب الأدبي. فمن هذه الزاوية، وبخروج غير آمن للمؤلف من دائرة الاهتمام، وتعويضه بالمصطلح الواصف الباعث على الخيال والتأمل التلقائيين للأثر الأدبي، تم توسيع رقعة التلقي النص الأدبي، فضلا عن إذكاء روح الديناميكية بين النص والقارئ.

ليس بعيدا عن البناء الجوهري للنص الأدبي، وما يثيره من نواقصَ على مستوى التلقي، فإن الانزياح اللغوي، الذي يلجأ إليه النص، يجعلنا في ورطة حقيقية، خصوصا عندما نقتفي أثر المعنى. والدليل على ذلك، نقاط الحذف التي أصبحت ميـْسم الإبداع المعاصر. إن احتفاء هذا الأخير بالمحو والنقصان، دليل على أن العالم ناقصٌ وغير كامل، بل مبتور ومحذوف، لذا، فاللجوء إلى الخيال والإسقاطات والرؤية والهذيان، وأحلام اليقظة، كلها سبل نحو معانقة ما لم يستطع البوحَ به النصُ الأدبي. وهكذا، فإن الظاهرة الأدبية تعكس حقيقة تعقد الظاهرة الإنسانية في عموميتها، من زاوية التفاعل والديناميكية، التي ينسجها القارئ مع النص. فمن شأن الانزياح، في هذا المستوى، أن يعيد بناء وتشكيل النص من جديد، وفق إسقاطات ذاتية، مستقدمة من مختلف المشارب المعرفية، التي هاجرت إليها الذاتُ العارفة.

ففي رواية «رحلة الغرناطي»، للكاتب اللبناني ربيع جابر، التي عرفت نجاحا كبيرا، أكبر دليل على هذا التفاعل الغامض بين القارئ والنص، من زاوية أنها تجسد علاقة غامضة وملتبسة للإنسان مع الزمان والمكان. فالإحساس بالغربة والفقد والحرمان، في الذات والآخر، من أهم الإسقاطات، التي دفعت بالرواية إلى بقعة الضوء في الساحة الأدبية العربية، حيث إن القارئ العربي يحس بأنه يعيش، مع جابر، تجربة التيه والفقد والحرمان الأبدي. فالتيه تيهان، تيه الأخ الأكبر «الربيع» في غابات غرناطة، وتيه الأخ الأصغر «محمد» في البحث عن الربيع. بيد أن في هذين التيهين تيـْها أعظمَ و أكبرَ، هو عندما يرفع جابر الستار المعتم عن تاريخ تشكل في لحظات متباعدة لمنطقة مهمة من الوجود العربي في الأندلس.

تقودنا هذه الإسقاطات، أخيرا، إلى متعة ودينامية تتحكم في العلاقة، التي تربط بين النص والقارئ، وبالتالي نكون بحاجة ماسة إلى مزيد من الإبحار المعرفي، حتى تتوطد هذه العلاقة، لأن استجلاء الغامض في النص لا يتأتى إلا بالبحث والمعرفة المتجددة.

٭ كاتب مغربي (القدس العربي)