تفاصيل

الخميس - 18 يونيو 2020 - الساعة 07:43 م بتوقيت اليمن ،،،

مدى الثقافي/ فائزة مصطفى*:


أي شخص يزور قصر الأمبواز الشامخ غربي مدينة باريس سيقف منبهرا أمام "حديقة الشرق"، فتحت ظلال شجرة الأرز الوارفة تتجاور قبور عائلة أشهر شخصية إسلامية في التاريخ الحديث، بينما يتراءى خلف الأغصان الكثيفة ضريح أهم رسّام عرفته البشرية، وما بين المكانين يوجد المدخل الخلفي للقصر موصولا بالسلالم اللولبية المؤدية نحو الأنفاق حيث كان الأمير الجزائري أسيرا، ويجاورها ممر سري للملك فرانسوا الأول الذي كان يقوده نحو جناح صاحب "الموناليزا"، وفي حدائق الأمبواز الغنّاء أنجز الفنان العبقري أهم اختراعاته السابقة لعصره، بينما أصبح صاحب "المواقف" في زنزانته رمزا لحوار الحضارات، ليشهد بذلك هذا المكان التاريخي لقاء رجلين عظيمين في زمنين متباعدين.

ليوناردو دافنشي بين الجنون والعبقرية

لبى الرسام الإيطالي ليوناردو دافنشي (1452-1519) دعوة الملك الفرنسي فرانسوا الأول (1515-1547) للإقامة في مملكته عام 1516، كان الفنان في الثالثة والستين من عمره، وقد تجاوزت تجربته الفنية عصرها في إيطاليا بعد ظهور فنانين نابغين آخرين مثل: مايكل أنجلو ورافائيل، أسسوا لمدارس جديدة في عصر النهضة، كما كان يعاني صاحب "حداد جميل" من عداوات تحركها الغيرة الشديدة، فغادر حاملا معه ثلاث لوحات لم تُصنف حينها بعد ضمن التحف الخالدة، وهي: العذراء والطفل، القديس جون باتيست، والموناليزا.

أقام الفنان الموهوب في قصر "كلو لوسي" بمدينة الأمبواز غربي العاصمة باريس، كان مقر إقامة والدة الملك الفرنسي الذي خصص لضيفه راتبا كبيرا، ووفر له كل شروط الإقامة الإبداعية، وجعل له الحديقة حقلا للتجارب العلمية والاختراعات.

اهتم فرانسوا الأول بهذه الشخصية بسبب إعجاب الفرنسيين بما وصل له العمران والهندسة والفنون بإيطاليا من عصرنة ورقي، ولذلك رغب في الاستعانة بموهبة الفنان الكبير ليضفي لمسته على القصور التي شيدت حينها حديثا بجنوب غربي فرنسا. وكان الملك يستمتع مع ضيوفه النبلاء باختراعات ضيفه وتصميماته للألعاب النارية والمفرقعات خلال الحفلات الباذخة في قصر الأمبواز الملكي، كما صمم صاحب "البشارة" مجسما آليا يمثل المجموعة الشمسية عبر مصابيح معلقة تدور حول بعضها البعض، فحول ليالي القصر إلى كون مضيء وخلاّق أبهر ضيوف الملك.

وطيلة فترة إقامة صاحب "العشاء الأخير للمسيح" في فرنسا من 1516 إلى غاية وفاته في 1519، طلّق الرسم وأضحى مهندسا ميكانيكيا، مصمما معماريا، مبتكرا، مخترعا وفيلسوفا أيضا، أنجز عشرات المخططات والمجسمات لمختلف الآلات الميكانيكية، ومعدات حربية كالدبابات والرشاشات، وعربات تتحرك آليا، ومولدات للطاقة، وكان من الأوائل الذين فكروا بالطيران، وكانت تلك المشاريع منفردة وغريبة ولم تتحقق إلا بعد قرون طويلة.

صحيح أنه لم يتبق من تلك الاختراعات التي جسدها في قصر كلو لوسي المجاور للأمبواز إلا المخططات، مقارنة بلوحاته الفنية التي ظلت محفوظة وموزعة على متاحف العالم، لكن ما زالت الأجيال تتناقل قصص اختراعاته العبقرية. هناك تصاميم مجسدة شكليا في قصر كلو لوسي وحدائقه، مثل الدبابة والطائرة الدائرية، وآلات للسقي وغيرها، بينما عجز تلامذته ومساعدوه عن تحقيق حلمه الأخير ببناء مدينة مثالية تربط قناتها البحر المتوسط بالمحيط الأطلنطي وأخرى تمتد إلى بحر المانش، إذ لم يتمكنوا من تفكيك مخططه الهندسي المعقد بعدما أدرك المرض صاحبه طيلة ثمانية أشهر، ليفارق الحياة في الثاني من أيار/مايو 1519 عن عمر ناهز 67 عاما.

رسم عدة فنانين اللحظات الأخيرة في حياة صاحب "عذراء الصخور" مثل لوحة الفنان الفرنسي جون أنجر التي رسمها عام 1818، ولوحة الفنان الألماني سيزار موسيني التي رسمها عام 1828، وتخيلوا مشهد احتضار ليوناردو دافنشي بين ذراعي الملك المحاط بحاشيته، ليكون بذلك من الفنانين القلائل في عصره الذي نال تلك الهالة من التقدير والعرفان والرعاية الفنية، إذ اتخذه الملك أبا روحيا له، وقال عنه: "إنه الفكر الأكثر إشعاعا الذي لم يعرف العالم مثله". وشيّع صاحب "سلفادور مندي" حسب وصيته محمولا على أكتاف ستين فقيرا، ودفن في كاتدرائية سان فلورونتين التي تعرف الآن باسم سان يوبار في ساحة قصر الأمبواز.

كيف أثر الأمير عبد القادر على الأمبوازيين؟

تحت الدهاليز المظلمة والباردة بقي الأمير عبد القادر ابن محي الدين (1807-1883) مسجونا رفقة 97 من أفراد عائلته وحاشيته، بينهم: 21 امرأة و15 طفلا أغلبهم من الرضع، قضى 25 أسيرا منهم بسبب البرد والمرض والجوع وظروف السجن القاسية التي استمرت خمسة أعوام داخل أنفاق قصر الأمبواز الملكي، ولم يفرج عن الأمير ومرافقيه إلا عام 1852 بعد وصول نابليون الثالث (1808-1873) إلى الحكم، والذي كان يكن للأمير احتراما وإجلالا كبيرين، لا سيما في ظل تنامي أصوات السياسيين الذين عارضوا تنفيذ حكم الإعدام في حق الأسير الجزائري، وكان هذا الأخير قد ألحق بالجيوش الفرنسية هزائم مهينة طيلة سبعة عشر عاما من المعارك الضارية.

أسس الأمير عبد القادر الدولة الجزائرية الحديثة بعد دخول المحتل الفرنسي بسنتين أي عام 1832، وجعل من مدينته معسكر بأقصى الغرب عاصمة لدولته، وأعلن الجهاد لتحرير الأرض إلى غاية مواجهته لضربات موجعة من الداخل والخارج، وتعرض السكان إلى مذابح ومجاعات نتيجة تبني المستعمر لسياسة الأرض المحروقة، مما دفع الأمير لتسليم السلاح والتفاوض مع العدو على نفيه إلى الشرق في عام 1848، لكن الفرنسيين أخلفوا وعدهم، ونقلوه إلى بلادهم، قضى بضعة أشهر في سجن بمدينة طولون ثم في مدينة بو، ليستقر مع ذويه ومرافقيه في زنزانات قصر الأمبواز حيث واجهوا حربا نفسية وظروفا مأساوية، إذ مات 25 أسيرا بينهم بسبب البرد والمرض والجوع والأسر الذي استمر لخمسة أعوام. توجد قبور هؤلاء إلى يومنا هذا في أعالي حديقة القصر، حيث اشترك السكان في تشييد ضريح تكريما لأسرة الأمير في تلك الفترة، وقد أبدى الأمبوازيون للأمير الأسير احتراما كبيرا نظرا لما كان يصلهم من خلف أسوار سجنه من أخبار عن زهده وعلمه وسعة فكره، إلى جانب سمعته كبطل باسل قاوم في سبيل تحرير أرض أجداده. وأعاد الفنان الجزائري الشهير رشيد قريشي تصميم قبور عائلة الأمير وحاشيته في قصر الأمبواز قبل أعوام قليلة.
يخيم غموض كبير حول السنوات الخمس التي قضاها عبد القادر الجزائري في فرنسا، وحتى خلال زيارتي الشخصية للقصر لم يسمح لي بالنزول إلى الأقبية حيث كان مسجونا، ولا توجد من آثاره المكتوبة أو مقتنياته سوى صورتين فوتوغرافيتين معلقتين على هامش غرفة ملكية، مع وجود توطئة بجانبهما تفسر سبب وجود الصور في المكان دون أي تفاصيل أخرى، إلى جانب ثريا معلقة بكاتدرائية صغيرة في قلب القصر، أهداها الأمير للراهب كتعبير عن تسامح الأديان.

يقول الباحثون إن القيود خففت على الأمير خلال أيام سجنه الأخيرة، وسمح له ولمن معه بإقامة الصلوات والشعائر الدينية، وخصصت لهم غرفة لتدريس القرآن، كما سمع سكان الأمبواز لأول مرة صوت الآذان يعانق قرع أجراس الكنائس.
تناوب على زيارة مؤسس الدولة الجزائرية الحديثة عدد كبير من المفكرين والسياسيين والقساوسة والنبلاء نظرا لما شاع عن شخصيته الإنسانية وفكره الخلاّق، كما يعد أول من دعا إلى حوار الحضارات. وما يمكن استنتاجه أن الإسلام كان مهابا في تلك الفترة، والأمير ظل محبوبا لدى الأمبوازيين إلى درجة اعتباره بمثابة قديس أو فيلسوف جليل.

وما يمكن استنتاجه أيضا أن الأمير ظل حذرا في تعامله مع الفرنسيين لا سيما نابليون الثالث، رافضا أن تُستغل صداقتهما لأنسنة المستعمر والترويج لسماحة العدو عند الجزائريين، فبلاده كانت لا تزال تحت الاحتلال ويتعرض أهله إلى المجازر الدموية وكل أنواع البطش والاستعباد باعتبارهم مواطنين من الدرجة الثانية، وهذا ما يفسر رفض عبد القادر عرض الملك الفرنسي بتنصيبه على عرش مملكة عربية، كما تمسك بمطلب نفيه خارج فرنسا، بينما كان الأمير أحد سفراء نابليون الثالث إلى القبائل العربية لحفر قناة السويس باعتبار المشروع إنسانيًا يقرب بين الشعوب ويوحدها. وفي أكتوبر/تشرين الأول 1852 تنقل نابليون الثالث بنفسه إلى قصر الأمبواز ليمنح للأمير شخصيا صك حريته مع من معه، وهناك لوحة للفنان الفرنسي أونج تيسيه رسمها عام 1861 تجسد هذا المشهد، وغادر الأمير إلى إسطنبول ثم دمشق حيث قضى بقية حياته، متفرغا للكتابة، وسفيرا للسلام، كما لعب دورا بطوليا في إنقاذ عدد كبير من المسيحيين في حرب الشام الشهيرة بين المسيحيين والدروز عام 1860. توفي بطل المقاومة الجزائرية عام 1883 ودفن قرب الفيلسوف المتصوف ومعلمه الروحي العلامة محي الدين بن عربي بدمشق.

هل زار الأمير الجزائري قبر العبقري الإيطالي؟

يكشف القائمون على قصر الأمبواز اليوم عن ولع عبد القادر ابن محي الدين بالآلات الميكانيكية والتكنولوجيا السائدة في القرن التاسع عشر، إذ كان يزور محطة القطار وسط مدينة الأمبواز لرؤية هذه المركبة البخارية التي لم يشاهدها من قبل، كما يحكون عن حبه الشديد للقراءة. لكن هل سمع هذا المقاوم والمفكر الجزائري عن الرسام ليوناردو دافنشي الذي عاش في نفس المكان قبل ثلاثة قرون واشتهر باختراعاته الخارقة؟ سنستبعد ذلك إذا ما عرفنا أن الفنان الإيطالي لم يكن مشهورا مثل يومنا هذا، كما تحطمت الكاتدرائية التي دفن فيها خلال ثورة في عام 1808، ليظل منسيا إلى غاية 1863 حينما قرر أرسال هوساي، مفتش عام للفنون الجميلة، البحث عن رفات ليوناردو، وبعد أبحاث وحفريات تمكن من العثور على عظامه بالقرب من حجر منقوش عليه بقايا حروف تشير الى اسمه، ليعاد دفنه في المكان مع حرص السلطات الفرنسية على الإشارة إلى كونه قبرا محتملا لصاحب "الموناليزا". وأمام تلك الظروف التي ألمت بقبر الرسام العبقري لم يتسن للأمير مصادفة قبره أو قراءة اسمه، رغم أن جثته كانت على بعد خطوات فقط مردومة تحت الركام.

وفي تقاطع لقدر الرجلين أيضا، نقل رفات الأمير هو الآخر من دمشق إلى الجزائر بعد استقلالها، ودفن بمقبرة العالية بالعاصمة التي لم يزرها الأمير قط في حياته، وكانت لقرار إعادته الى الوطن رمزية كبيرة باعتباره أهم شخصية تاريخية وإنسانية، ورغم هذه المكانة التي يحظى بها بطل المقاومة في تاريخ البشرية جمعاء إلا أن قبره شبه مجهول، وعاصمته معسكر مهمشة، ويتم الاحتفاء بذكراه أو الحديث عن مآثره مناسباتيا فقط، بينما يجلب القبر المفترض لدافنشي في قصر الأمبواز نصف مليون زائر سنويا، كما خصصت المدينة معارض ضخمة بمناسبة المئوية الخامسة لرحيله السنة الماضية. ويشعل الإرث الثقافي لصاحب لوحة "سيدة مع القاقوم" أزمة سياسية بين فرنسا وإيطاليا، فهناك نزاع بين البلدين بسبب لوحاته الثلاث بينها الموناليزا التي تقول باريس إن الملك فرانسوا الأول اشتراها من راسمها، كما يعكس صاحب رسالة "ذكرى العاقل وتنبيه الغافل" جرحا غائرا في تاريخ فرنسا والجزائر، وفي المقابل يشكل مادة ثرية للباحثين من البلدين لكونه شخصية استثنائية جمعت بين القيادة العسكرية والحنكة السياسية والمكانة الروحية والفلسفية والملكة الأدبية والفكرية.

*ضفة ثالثة