تفاصيل

السبت - 20 يونيو 2020 - الساعة 02:31 م بتوقيت اليمن ،،،

مدى الثقافي/من ابو النصر.


حالة من الفتور، وتكلس الروح، وصدمة مدينة لا تكف عن توحشها ومذابحها، تسيطر على أجواء المجموعة القصصية �ما لا يمكن إصلاحه� للكاتب هيثم الورداني، الصادرة حديثاً عن دار �الكرمة� للنشر بالقاهرة. في مقابل ذلك يبدو السرد وكأنه خيط سحري قادر على ترميم الشقوق والفجوات وخلق عالم بديل، يمكن أن تنعم فيه الشخوص بإيقاع حياة جديد، بعيداً عن الجمود والخذلان.

تضم المجموعة ثماني قصص مفتوحة على سياقات سردية متعددة، وفي خلفيتها تسود موجات من الضجيج الذي يبتلع أصحابها، حتى أن بطل قصة �الخطوة المعلقة� يظل يُراقب تجلط السيارات وسط الحرارة اللافحة، وهو جالس في محطة الترام، وفي اللحظة التي يغادر المحطة يشعر بأنه ترك ذاته على كرسي المحطة: �تيقنت من دون سبب واضح أنني أُخلف ذاتي إلى الأبد هنا�، يذوب البطل في تموجات المدينة وانتهازيتها حتى يصل لمحطة استراحة في أحد المطاعم، وهناك يخيم عليه هاجس لعنة ما، بعد أن مرّ صدفة أمام مرآة فوجد انعكاس صورته شاحباً وكأنها في طريقها للتلاشي. يلتقي صدفة بصديق قديم في المطعم، يمر أمامه شريط حياته في حضرة صديقه، لا يستطيع التخلص من هاجس التلاشي، لا يجد ما يذكره لصاحبه القديم من نشاط يذكر في حياته بخلاف أنه �يستمع بين الحين إلى الآخر إلى الراديو�، فصاحب �الخطوة المعلقة� فقد ذاته القديمة وسط زحام ما، ولم يعد واثقاً من أن صورته ما زالت منعكسة على المرآة، وكأن روحه تحتشد خلف رغبة غامضة في تغيير حياته �لعلي أرغب في سلك طريق آخر الآن�.

يمتد خيط الجمود الذي يترك ذبوله على ذات ذلك البطل، ليتحول إلى صدع عميق من الجنون داخل بطل قصة �أديم الأرض� الذي أعمل الكاتب فيها أحاجي الذاكرة وألاعيب السرد، وتبقى البناية الآيلة للسقوط التي يمر بها البطل هي العلامة الأكثر رمزية ودلالة على مدار القصة.

تقف تلك البناية شاهدة على السياق الكابوسي السيزيفي الذي يعيشه البطل، الذي يبدأ يومه ومعه زملاؤه من العمال في استقبال شاحنات تنقل لهم حمولتها من الجثث، يفرزونها ثم يهيلون عليها التراب، ومن فوق رؤوسهم الكواسر الجائعة، ثم يُفاجأ بأن لا أثر لأي من تلك الجثث في اليوم التالي وهو يدفن المزيد: �لاحظت أنني كلما حفرت حفرة جديدة لا أجد أي أثر للجثث التي دفناها في اليوم السابق. كل يوم كنت أتوقع أن أجد عظمة بيضاء مثلاً وأنا أحفر، أو أن أعثر على جمجمة مشجوجة، لكن معولي لم يكن يصطدم بأي شيء صلب في موضع ارتطامه بالأرض، فأدركت أن اتساع الحديقة التي نعمل فيها لا نهائي رغم حدودها الواضحة، فكلما أحضروا مزيداً من الجثث وجدنا فيها مكاناً خالياً من الجثث رغم امتلائها، كأن أرضها لا تشبع�.

يعود البطل المُتورط في كومات الجثث لبيته كل يوم، فيجد سيدة وابنتها في انتظاره، ولكنه لا يعلم عنهما شيئاً، فتزيد ورطته، ثم تتحول لعبة السرد بعد أن يتعرف أخيراً على السيدة والبنت ويعرف أنهما زوجته وابنته، حيث يسترد عالمه الذي يبدو أنه قد استعاد استقراره وسط العائلة، إلا أن وعيه يظل مُشوشاً، مسكوناً بحكايات الجثث والبناية الآيلة للسقوط، يُصر على العودة لمكان خيالاته وأرض معارك الجثث، فينبش في الأرض منكفئاً على وجهه في الطين، يأكل من أديمها.

في قصة �غداء�، تذبل الحياة داخل بيت العائلة، وتتقطع بينهم سُبل الوصال. يزحف كل فجر صوت سعال الأب في هواء الصالة ليُرسل لصاحبة البيت رسالة عن زوجها الراقد في غرفة تخصه، فيما تسكن هي غرفة أخرى، تفتح المصحف، تمُر على السطور، يرتعش هواء النافذة، فتسرح بذهنها بعيداً، حتى تتماهى مع صوت هسيس ما يناديها. أما الزوج فيظل في عتمته حتى بعد شروق الصباح، يتأمل خطته كما كل يوم �لم يكن تفكيره فيها كل يوم يزيدها تماسكاً أو إحكاماً، وإنما يزيدها تشويقاً، فالمباهج التي يمكن أن تسفر عنها، والتي يكتشفها شيئاً فشيئاً كل صباح، لا تنتهي� كانت خطته أن يغادر البيت، ويعود إلى السبعينيات، ينتظر زواج ابنته لينفذ خطته بإحكام، بتدبير ماديات وإجراءات الانتقال إلى حياته الأولى قبل أن يعول أسرته.
وفي �شبابيك جديدة�، تتعثر بطلة القصة في متاهات فشل قصة زواجها، يصاحب تحول مشاعرها تغيير نوافذ البيت الخشبية إلى أخرى معدنية، تتسع تأملات البطلة التي تعمل بالكتابة، فتسرح في الحديث إلى الحيوانات: �أتأمل وجوه الحيوانات التي تحيط بي. بعضها كان ينظر إليّ، وبعضها يشيح وجهه عني. بعضها كان يتحدث معي. وبعضها يبقى صامتاً�. تتعلق بجرس الهاتف الذي يحمل لها صوت زوجها الذي اعترف لها بوقوعه في حب أخرى، في انتظار مفاوضات أخيرة محتملة بالعودة لما كانا عليه قبل العاصفة، وما بين جرس الهاتف والنوافذ الجديدة ولغة الحيوانات وخيالاتها تتفاعل رموز النص وتتشابك أحياناً إلى أن تُقرر البطلة مصيرها، وسط واقع صادم، وهواء مدينة راكد، ينتظر أن يتجدد... بمساحة حانية من الخيال.

*الشرق الاوسط