مدى الثقافي/ محمد العامري*:
لم نستطع إلى هذه الساعة التخلص من الحديث عن فيروس كورونا، فهو يعيش معنا في كل لحظة، بل يتمظهر في كل مشهد وزاوية في الشارع والبيت، أثارني ما ذهب إليه الأمريكي إدوارد هوبر (1882م-1967م) في مجمل تجربته الفنية، التي قامت على مفردة العزلات والمدن المهجورة، فالشوارع فارغة، وكذلك محطات القطار، والبيوت التي تعاني وحدة كما لو أنها لم تكن من قبل.
لوحاته التي تعبر عن صمتها القاسي وعن فرادتها في فراغ الطبيعة.. فهو لا يثرثر وصامت كلوحاته التي تفتقد البشر، ففي قوله المشهور نستدل على طبائع تفكيره في الرسم ورؤيته للكون حيث يقول: (إذا كنت تستطيع التعبير بالكلمات، فلن يكون هناك سبب للرسم).
هو قال حاله في الرسم لكونه كائناً يعشق العزلة والوحد، يرقد في مرسمه متأملاً ويهجس بأسئلة الأرض، فقد انحاز نحو واقعية خاصة به، من حيث انتصاره المؤكد للحوار الدقيق بين النور والظلال، والتي تعطي أعماله شيئاً من الخشوع والهيبة.
فقد رسم المشاهد الاعتيادية نازعاً منها سكانها وبدت مدنه فارغة، مدن شبحية نسمع عبر مبانيها الأنين الخفيف، وصفير ريح تمرّ من خلال نوافذها المشرعة على المساحات والحقول الفارغة.
قد يكون هوبر احترف العزلة التي تقوده إلى التركيز والتأمل العميقين، فكانت مدنه الفارغة تعبر عن رسالته الفلسفية في تصور خراب الحضارة، وتطورها المعكوس، كما لو أنه ضد تحويل الإنسان إلى ماكينة، فقد عبر عن البعد النفسي القاسي للإنسان الذي يعاني وحدةً هائلة، فالإنسان في لوحاته صامت، يراقب ولا يتحرك، حتى في لوحة المرأة في مقهى، نجد أن الكرسي الفارغ أمام المرأة كأنه لموعد لم يتم، فهي تُظهر تعبيراتها الحزينة والكئيبة مع فنجان قهوتها، ويظهر في يدها اليسرى قفاز كناية عن طبيعة الطقس البارد، وحيدة على الطاولة مع قهوتها في مقهى فارغ لا حراك فيه.
تصور لوحات إدوارد هوبر حجم المأساة التي يعانيها الإنسان في وحدته، الكائن الذي يقف أمام شرفته وحيداً يرافق المشهد الخارجي الصامت والفارغ.
فالفنادق والقطارات والناس في مدن فرغت من أهلها، حيث تعكس مشهدية اللوحة قوة الصمت وسلطته على المشاهد، كما لو أنك في مشهد تأملي حزين، لا حراك ولا احتكاك مع العالم الإنساني، البيوت صامتة ووحيدة، وكذلك البشر وحيدون تماماً كما يظهر لاعب الغولف مع كلبه في إحدى لوحاته، فقد انتفت التشاركية الإنسانية في كائنات هوبر، وقادتنا إلى دلالات الحجر الصحي، أو المعتزلات القسرية التي فُرِضتْ على إنسان العصر الحديث في زمن الوباء.
تشكل ظاهرة الاغتراب ثيمة أساسية ذات بعد درامي في أعمال هوبر، يطرح مسرح الحياة الذي يتكلم بصمته الناقد، فهو في واقع رسوماته يرصد المفارقات الدرامية بين المساحات المضيئة والمساحات الظلية، معطياً قيمة قوية لمفهوم الصمت والفراغ، محققاً بذلك مشهداً استثنائياً للاغتراب والعزلة معاً.
فحين رسم النساء الوحيدات، كان يريد أن يبث رسالة تتمثل في خلل العلاقات الإنسانية الطبيعية، ويقدم نمطاً أقرب إلى سوريالية واقعية، يتخيلها المشاهد في تفاعله مع الصمت والفراغ والوحدة.
ومن لوحاته المشهورة (منزل بجوار السكة الحديدية، ورحلة إلى الفلسفة والشمس في حجرة فارغة، والمطعم الآلي، وغرفة في فندق) وغيرها.. حيث تمثل تلك العناوين استبدالاً للناس بجسد الطبيعة، كلوحة (الشمس في حجرة فارغة)، كأن الضوء هو الكائن الذي يشغل فراغ الغرفة ويضفي وجوداً كونياً على أثاث الغرفة من خلال تفاعلات عناصر الغرفة مع الضوء والظل.
استطاع هوبر أن يقبض على لحظات العزلة والاغتراب والتيه والكآبة، التي تواجه كائنات المدن الحديثة، وهي مفردات تشكل مساحة ناقدة للمجتمع الحديث في تحولاته المجنونة، تحولات الإنسان إلى أفكار صناعية تشبه الآلة منزوحة من الوجود العاطفي، الإنسان الذي يطمح للحوار مع الشجرة والعشب، فقد تحول الإنسان في فكر هوبر إلى كائن يعيش في غابة من المصانع، التي تصهره وتنفي عنه إنسانيته.
ويعيدنا هوبر إلى مساحة مؤلمة في حياتنا الذاتية المنطوية على تساؤلات كونية، تساؤلات الشعور بالوحدة والعزلة، فهي سليطة في مكانها في ذاكرتك حيث تعيشها كجزء فاشل من حياتك اليومية.
والغريب في رسومات هوبر أنه أقام علاقة تواترية بين أكثر من لوحة لذات المشهد، فتارة يرسم المشهد فارغاً وممتلئاً بالنور والظلال، ونفس المشهد في لوحة أخرى تظهر المرأة وحيدة وهي تنظر إلى الخارج من شرفة غرفة نومها، ويبدو السرير مرتباً دلالة على انتفاء النوم، وبجانب السرير حقائب معدة للرحيل، ثم يستبدل بالمرأة رجلاً وحيداً أيضاً، يبدو كأنه يفتش عن المرأة التي كانت تقف على الشرفة، فهي سلسلة سينمائية بصرية، تعبر عن أفكار متسلسلة لإيصال وتعميق فكر التفارق الاجتماعي. أشعر بأنه قد تنبأ بعزلات تحدث الآن في زمن الوباء، فالعزلة وباء، وكذلك الوحدة والفارغ جزء من الوباء النفسي للكائنات الإنسانية.
يدرك المشاهد والمتفاعل مع أعمال إدوارد هوبر قيمة استثنائية فيما يخص تفعيل الظل والنور في مساحات المنازل والشرفات والمدن، فهما قيمتان تتحولان إلى شواهد فاعلة لإظهار شبحية المكان ووحشته.
فالظل ينكسر بشكل حاد ككتلة هندسية داكنة تظهر قيمة الجدار المضيء، لم يترك (هوبر) أمر الظل جزافاً في حركته، بل كان ينظمه كقطيع معتم يحركه في مدنه الفارغة ليقدم لنا وحشة لم نعتدها من قبل، حيث تشعرك الحوارات البصرية بين ما هو معتم ومضيء، حجم الكآبة وانتفاء الوجود الإنساني في تلك الشوارع الفارغة.
تشعرنا لوحاته بأن تلك المدن المهجورة، قد مرت عليها أزمان طِوال دون أنفاس الكائن الإنساني. فكان محقاً بقوله: (إذا كنت تستطيع التعبير بالكلمات، فلن يكون هناك سبب للرسم).
لذلك قال: كل شيء عبر الرسم، بصمت لوحاته وفراغ شوارعه ومدنه المهجورة.. فهل تنبأ هوبر بزمن المعتزلات التي نعانيها الآن، من جراء الوباء القاسي الذي تعانيه الأرض كلها.
*الشارقة الثقافية