الإثنين - 01 مارس 2021 - الساعة 07:30 م بتوقيت اليمن ،،،
مدى الثقافي/ قاسم حداد*:
…. لم يكن العرض مغرياً، قيل له: لك أن تفتح ثغرة في الجدار. تطل الثغرة على الصحراء الممتدة حتى البحر. لم يتردد كثيراً. قال: سأفتح الثغرة. لم لا. هذا أفضل من الجلوس تحت الدار. وربما لن يأتي سريعاً من يقبل هذا العرض. ومن المستبعد أن يتقدم أحد من تلقاء نفسه. أنا هنا في مواجهة خيار واحد فحسب. أن أفتح الثغرة في الجدار، أو أفكر في فتح هذه الثغرة. العرض ليس مغرياً، لكن البحر.
سمع حكايات كثيرة عن ذلك البحر، هو لم يصل إلى هناك. لم يحاول. ولم يلتق بأحد استطاع أن يصل. حكايات كثيرة كانت مذهولة ببحر مثله. تخرج منه مخلوقات جميلة. تتكاثر برشاقة. لها أحلام مربوطة بضفائر طويلة مبتلة بالملح. صدّق الحكايات، لأنه يحب المخلوقات البحرية. يزين بصورها جدران الغرفة الصغيرة التي تطل على الصحراء، بأحداق صغيرة. يحاورها في الليل. ويتوقع كل صباح أن تنتظره عند الباب. لم يكن باباً بالضبط، فهو لا يفتح كثيراً، مرة عند الصباح ومرة عند المساء، وأحياناً كثيرة لا الصباح يأتي ولا المساء. عشق الحكايات الجميلة عن ذلك البحر وتلك المخلوقات، صارت جزءا من تقاليد أحلامه ورؤاه التي تجتاحه إلى أن تصبب عرقاً. العرض الذي لم يكن مغرياً أغراه بالمغامرة. كيف يمكن لذلك البحر ذي الحكايات الشاسعة أن يأتي من ثغرة صغيرة مثل التي.. لكن. لم لا. ثغرة صغيرة يمكن أن تكبر، يمكن أن تصير أكبر من الجدار ولعل البحر يأتي.
2
قيل له أنت الآن في الغرفة الصغيرة ذات الجدران. أصدقاؤك مشغولون بغزل أشرعة لسفنٍ ما زالت خشباً في الغابة. وزوجتك مربوطة في سريرٍ فارغٍ باردٍ وبأطفال كثيرين. والغرفة لا تسع أحلامك. هذه الصور الجميلة لمخلوقات البحر كاد الغبار أن يغطيها. تفرغ جيوبك في الليل من قواقع الوهم. وليست لديك كتب ولا كأس. افتح ثغرة فقط. وبعدها يأتي البحر إليك. الأصدقاء الذين في ورشة الغزل تغمرهم أشرعة منصوبة على الأرض. ليس سوى الأبيض الشاهق وما لا يقاس من المحتمل. في الغرفة الصغيرة ذات الجدران لن تخسر شيئاً. إذا تعثر التوقع هناك احتمالات كثيرة للتحقق. فقط افتح ثغرة. وستغمرك الزرقة والملوحة وانتشال صاعق للأصدقاء من السرادقات البيضاء، التي اعتقدوا بصالحيتها للإبحار. ثغرة صغيرة أولاً. وبعد ذلك لك البحر كله.
3
رافقه هذا الحلم منذ أن خرج من تلك الغابة الشاسعة. مرة التقى بأحد الأصدقاء. فأخبره أنه أوشك على اصطياد الجنية التي تفزع أطفال المدينة. تخرج في منتصف القمر، وتوزع الوجل على وسائد الأطفال. وبعدها لا يأتي النوم. قال له إنه أوشك على الإمساك بذيل ردائها. ولكن التعب أخذ منه. ركضت وركضتُ وراءها. لها رشاقة النسيم وانسياب الماء مذعوراً. تركض وأنا ألهث وراءها كفارس أرهقته الخيول. ولم يدركه أحد ليمد له يد المساعدة. لم يدركه أحد. حتى أوشك على الصراخ. عندها أخذته ووضعت رأسه في حضنها. وراحت تقص عليه حكاياتها الخرافية حتى ينام. رأى نفسه في فوهة مدفع، أو فك حوت أو يتأرجح على خشبة في الفضاء، وتحت قدميه الأرض بعيدة. بعيدة جداً لا تكاد العين أن تراها. لكنه رأى قدميه تلبط باحثة عن شيء لا يطال. والعصافير تبني أعشاشها على أكتافه الكسيرة، لم يكن يعرف أن له أكتاف بهذه الكثافة ومعجونة هكذا. تذكر بعض آيات من الكتاب. استحضر بعضها حيث كان يسمع أنها تبعد الخطر والخطيئة. قال سأقرأ. والجنية خارج النوم تتأمل أحلامه الوحشية وأصابعها ترسم أشكالاً غريبة في شعر رأسه. رفع عينيه لأحد العصافير. وكان مدججاً بأسلحة كثيرة. طلب منه أن ينقذه. استغرب العصفور هذه الأمنية. فحمل صغاره ورحل. العصافير الأخرى تنتظر والجنية تتأمل. وهو في الصلب بين فكي الحوت وفوهة المدفع على شفير الحلم.
وفي اللحظة التي أطبق الحوت فكيه والمدفع ينفجر. استيقظ أمام ثغرة تكاد أن تصرخ. كبيرة. أكبر مما توقع. ثغرة شاسعة حتى أنها اجتاحت السقف والأرض معاً. والبحر كان هناك. هناك في الأفق. بحرٌ قادمٌ. أقدامه مشرعة فوق السرادق البيضاء. يتقدم. ولم يبق أمامه سوى أن يصدق ذلك.
4
قيل له. لن تخسر شيئاً. ولم يخسر شيئاً.
* شاعر من البحرين - القدس العربي