كتابات

السبت - 03 أبريل 2021 - الساعة 04:32 م بتوقيت اليمن ،،،

مدى الثقافي /محمد الغربي عمران*:


يمزج اليوسف في روايته سيرة حمى عدة فنون كتابية في قالب واحد.

خالد اليوسف.. ناشط وكاتب متميز.. تجاوز بمشاريعه وأنشطته النطاق الجغرافي للجزيرة العربية.. متعدد النتاج.. مجد مثابر.. المتابعون له يدهشون لذلك الزخم الذي دائما ما يضع نفسه في متنه. وتلك الأنشطة والإصدارات والانشغالات تذكريني بقرين له إلا وهو الروائي والناشط الثقافي الاسكندراني منير عتيبة.. ولذلك أردد دوما بمثلهم نقتدي.
اليوسف أبهرني بعمله الصادر حديثا.. عن مركز الادب العربي بالدمام.. 2021 .. والموسوم بسيرة حمى.. في هذا الإصدار حاول اليوسف.. استخدام أكثر من أسلوب كتابي.. ولمن سيقرأ هذا العمل.. سيدرك بأنه قد نجح في محاولته.
فدوما ما يعرف بأن الفن في تجدد.. وبالذات الفن الكتابي.. والتجدد يأتي عن طريق التجريب.. وأعني بالتجريب عن وعي.. وليس القفز في الظلام.
هذه العمل وتصنيفه يذكرني بدكتور شاكر خصبك.. جغرافي وأديب عراقي أقام في صنعاء سنوات ودرس في جامعتها.. ففي مقاربة له صنف رواية "ظلمة يائيل" بالرواية الجغرافية. وهو ما جعلني كمؤلف لها أسأله أن ذاك: وهل هناك رواية جغرافية !. ليرد: نعم مثلها مثل التاريخية والبوليسية... الخ
ووفق معطيات خصبك أجد أن "سيرة حمى" ينطبق عليها ذلك التوصيف.. إذ أن اليوسف أعتنى بوصف دقيق لتلك الأمكنة التي دارت فيها أحداث روايته.
فالقارئ الذي يعرف تلك المناطق يدرك دقة وصفها.. والمسافات والمعالم الواقعة في نطاقها.. وكما صاغها اليوسف بعين الجغرافي.. هي أيضاً رواية أثرية.. ووصفية بامتياز.
ومن الجغرافيا.. إلى الرواة .. إذ تبدأ الشخصية المحورية دكتور "خزيمة" تصف متأملاتها.. في حديث النفس:" يا لهذا الأفق البعيد الممتد بحثا عن عناق السماء!. يا لهذا السراب المترقرق وسط النهار ليزيدك حيرة...". وخزيمة هنا يتغزل متأملا جمال الصحراء وروعة سكونها. ليعقبه راو آخر بداية بمنتصف الصفحة الثانية.. راو بصيغة المتحدث إليه: "تنهي كلماتك المتجددة دوما بأسئلة لا تنتهي.. هل انت في قلق دائم أمام معجزة الصحراء التي فتنت بها, خصوصا بعد زياراتك الاخير لأراضي الصمان...". وهو بذلك يوجه كلامه لخزيمة الراوي السابق.. والشخصية المحورية للعمل. والمتحدث إليه أفسح له الكاتب المساحة الأكبر:"مرت ليلتكم الثانية بحال غير عادي...". وأيضا يسرد في موضع أخر:"لم تصبر حتى تصلا إلى ذلك الموقع, قيروي لك حكايته.. بل أنك طلبت منه أن يخبرك...".
ليعود خزيمة في موضع آخر ساردا.. اذ يتعاقبا السرد حتى نهاية الرواية. وهذا لا يعني بأنهما الوحيدان من يرويا احداث الرواية.. فهناك رواة أشركهم الكاتب بصيغ مختلفة . مثل: روى ابو الهيثم... وقال أبو زيد. واخبر ابو فؤاد أبا الهيثم. وروت شيما بنت... وقال ابو نصار الجويري...
لنجد أن اليوسف قد وظف أسليب حكي متنوعة لرواية تتجاوز صفحاتها"200" صفحة.. مقدما لقارئه وجبه دسمة وثرية بثراء معالم الرياض.. وتضاريس تلك البقاع الصحراوية شمال وشرقا.. مثل : ارض الصمان, الدمام, رماح, الدهناء, سراه الجنوب, النفوذ, الاحساء, بلدة الرفيعة, ارض اللهابة, عين هيت, ضاحية لبن, القصيم, قرية الخاتلة وسط الصحراء, ابراج الرياض, الدائري الشمالي.. منطقة العليا, طريق الملك فهد.. برج المملكة.. طريق مكة.. طريق التحلية, شارع تركي الأول, مدينة القوعية, ارض حلبان, مدينة ظلم.
لم يكتفي الكاتب بنجد.. حيث أتجه في رحلة وصديقه حاتم جنوبا.. نحو الحجاز.. ليصف لنا معالم الطريق إلى الطائف. واصفا العديد من معالم الطريق.. حتى حليا في الطائف ليعدد ويصف أحياءها وشوارعها وميادينها.. إلى هضابها وجبالها وأوديتها.. ونذكر هنا بعض ما وصف من معالم الطائف: مسجد عبدالله بن عباس, مسجد الهادي, برحة قزاز, شارع أبي بكر, جبال الشفاء, منطقة الردف, طريق الوهط, وادي ذي غزال, ميدان السليمانية, قصر البوقري, قصر الصيرفي. قصر شبرا, حي الفيصلية.. الهدا.. النقبة الحمراء...الخ
هنا يدرك القارئ مدى سعة معرفة الكاتب حين يجوب به الصحراء ذاكرا أبرز معالمها من وديان.. وهضاب .. ودحول.. وهو يتوسع من معلم إلى آخر.. بالوصف الدقيق.. مثل: "دحل الهاشمي يقع على مقربة من جبل معقلة, غرب روضة الخفيسة, في الطرف الغربي من عروق حزوا, جنوب دحل أبي مروة غرب دحل أبي سديرة... الخ". وأيضا يصف الرياض وهو يجول بها ليلا وقد خليت شوارعها من المارة والسيارات.. نتيجة قرار حظر التجوال الذي فرض لمحاصر تفشي فيروس كورنا.. وفي موطن آخر يصف: "سلكت الطريق إلى الرياض, وانا غير مصدق لما اراه! وقد شعرت بالهدوء والسكينة طيلة الطريق, فلم اعد أرى إلا بعض المركبات, تسير في الاتجاهين، وتجاوزت تقاطع طريق الملك سلمان, ومنظر ابراج الرياض العالية امامي, والتي بدت وكأنها لآلئ تلعب في السماء, واختفى الغبش والدخان الذي يدور بين هذه الأبراج...". الخ
اذا هي رواية تحمل سمات عدة أبرزها الجغرافيا.. بوصف دقيق ومفصل.. حيث يصطحب قارئه حتى نهاية الرواية.. في مشاهد سينمائية.. واصفا أحوال الناس والأماكن ماضيها وحاضرها.. وكأننا نشاهد فيلما مركب من خلال شخصيات هذا العمل.
الكاتب جمع بين شخصياتة إنسان الجنوب "جبال السراة" محمد.. وإنسان الحجاز حاتم.. وكذلك ابن الرياض والقصيم والشرقية.. في رمزية لتمازج ابناء الوطن الواحد.. وطن مترامي الأطراف ومتعدد التضاريس والمناخات.. من جبال إلى صحاري.. وأودية وسواحل هي الأطول على الأحمر ثم الخليج.. في لوحة يقدم المملكة بإنسانها.. وتلك العلاقات بين أبناء وطن واحد يقارب مساحته.. مساحة قارة.
في هذا العمل الذي يتمحور حول جائحة فيروس كورونا.. صور لنا اليوسف حالة المجتمع البشري.. وقد وقع تحت تهديد كائن لا يرى.. هلع من احتمال الفناء.. من خلال مجتمعه الذي عاش الرعب.. هو نفسه رعب الإنسانية جمعاء. المجتمع السعودي هنا مقطع يمثل كل سكان الأرض.. مستخدما السجع ليقرب الصورة.. "قال أبو الهيثم: حدث هذا سريعا في منتصف الحوت, بعد إحدى عشر ليلة مضت من سعد بلع, وما أن تبددت خيوط النهار على الحرم المكي, إلا أن رأينا منظرا مبكيا, فلا طائفين.. ولا ركع ولا سجود, ولا صوت ينادي العباد بتؤدة ودوداً, بل لقد عم الحزن حمام الحرم.. وصوت المؤذن في في شجن وألم ينفطم به الصدى بعد فراغ عظيم...". وأخرى يستخدم الشعر "كل ما قد بلغناه من علم, وابتكارات يا بن ووهان.. أضحى في لحظة من ذهول هباء. واكتشفنا سريعا مدى ضعفنا, وتساقط في لمحة كل ذاك الهراء. وانت الذي لا ترى ياسليل الخيانات, غيرت كل القناعات. اخلفت كل الموازين. أسكت كل الصواريخ والطائرات!! وأخرست كل القنابل, كل البنادق, والمدفعيات, والقاذفات, وكممت كل المرابين والأدعياء, وأغلقت دون عن عناء علينا جميع الدروب, وأغلقت حتى الفضاء!!
ووحدتنا في صفوف من الرعب شرقا وغربا , شمالا , جنوبا سواسية في خنوع: لأجالنا ننتظر". وثالثة القصة بعنوان "مؤذن" .
أبدع اليوسف باستخدام فن السيرة.. فبدت روايته في تناغم باستخدامه عدد من الأجناس الأدبية.. التي تجاورت وتتابعت.. ليقدم لقارئه زخما معرفيا.. وثراء ثقافيا بديع.
في كل فن كتابي مما ذكرنا نجد لغته تتغير.. مفردات.. إلى تراكيب جمل.. إلى متن الصياغة .. وأنساق الحكي المختلفة.. ليصل الكاتب إلى ما يهدف إليه.
سيرة فيروس وأثره على الإنسانية.. حيث صورته الرواية كقاتل لا يفرق بين أتباع ديانة وأخرى.. ولا بين الأعراق.. ولا يؤثر فيه مناخ ولا تضاريس.. ليهدد الانسانية التي يراها القارئ في هذه الرواية في مهب الهلاك.
فهل هي من اليوسف رسالة محبة ودعوة سلام بين أجناس الأرض؟. فبما يمتلكه من قدرات سردية وظفها ليصل بالقارئ إلى غايته.. وهو أننا على هذا الكوكب في مستوى واحد.. مبرعما تساؤلات وجودية عديدة.. يقف عقل المتلقي باحثا عن أجوبة لا يجدها لدى رجال الدين في مختلف القارات.. ولا دعاة نقاء العرق.. ولا إنسان الأدغال مقابل إنسان مدن معاصرة.. أسئلة تتعدى حدود المنطق.. والمطلق.. إلى فضاء نرى فيه نحن البشر أمة واحدة.. بعيدا عن دعاة الفرقة.. ممن يبذرون الفتن ونشر الحروب.. من ذوي النزعات التسلطية.
ويمكنني هنا أن نختتم هذه المقاربة.. بأسطر من الرواية تحمل دلالات اجتماعية عميقة.. تعبر عن أثر هذا الفيروس.. حتى على أسرة النوم والعلاقات العاطفية: "روت الشيماء... عن أمها الرضاب بنت سلطان النفلي.. أنها سمعت.. في مجلسها الافتراضي.. حديث نسوة غاضبات.. وبعضهن شامتات.. واخيرات حاقدات! أن الرجال لم يبقى فيهم رجلا واحد.. وأن الرجولة ولت في هذا الزمان. بعد المبيت بأمان.. في مسكن حسان..
قالت عن إحداهن مما تعانيه من بعلها: لم يكن نواما بجواري منذ سنوات.. لكن الجائحة دفعته إلي.. وأمسى يردد لا أشعر بطعم النوم إلا بجوارك ياحبيبتي!
فحمدت الله أن حمى الصين أعادته بسلام!
وشهقت منه وهو يردد ياحبيبتي.. ياحبيبتي!
فضحكن جميعاً"
هي تحية لأديب يبذر المودة.. ويصنع بأعماله وأنشطته مكانته العالية.. ولعمله المختلف.. وأيض تحية لشجاعته على التجربي.
*روائي وكاتب -رئيس نادي القصة اليمني ال مقة