كتابات

الأحد - 04 أبريل 2021 - الساعة 05:39 م بتوقيت اليمن ،،،

مدى الثقافي / هيثم الزبيدي*:


يتكرّر مشهد صعود وتراجع المدن الثقافية العربية. تتعدد الأسباب، لكن النتيجة واحدة وهي خسارة للمنطقة ومثقفيها وناسها. المكانة التي تحتلها عاصمة في الشأن الثقافي شيء ثمين يجب عدم التنازل عنه بسهولة. بناؤه مكلف ويأخذ الكثير من الوقت والجهد، لكن النتيجة إيجابية بالمطلق.

منذ عهد الخروج العثماني والدخول الغربي للعالم العربي، ازدهرت العواصم على تتابع. سبقت القاهرة الجميع. أمّ الدنيا في حينها باستحقاق. القاهرة، وبعض المدن الكبرى في مصر، أصبحت شعلة نشاط. لا يتوقف العطاء الثقافي بكل تنويعاته. أكاد أجزم أن صناعة الأدب والفن، السينما والمسرح والاهتمام بالفنون التشكيلية كانت أفضل من دول أوروبية متوسطية. السينما المصرية كانت تنتج مئات الأفلام سنويا. أين كانت صناعة السينما اليونانية مثلا؟

الإشعاع من القاهرة وزّع الدفء على أرجاء كثيرة من العالم العربي. انتبهت العاصمتان المتنافستان بغداد ودمشق. لم يمرّ وقت طويل حتى بدأت الحركة تدبّ في أوصال الناس وصارت لديهم ذائقة فنية وثقافية، بات من المطلوب أن تجد اللمسات العراقية والسورية في الفنون على أنواعها. بيروت كانت الأذكى بين الصاعدين، وعرفت أين حدود الحركة في بغداد ودمشق، وأين ستخفق التدخلات السياسية في المشهد الثقافي المصري بعد الخمسينات، فكانت الحاضرة بناسها أولا، وبمن استقطبتهم من العرب ثانيا.

في لحظة من اللحظات، كانت هذه العواصم تتنازع المجد الثقافي، وتخلط الفني بالأدبي بالسياسي. وكنا نحن المستفيدين.عواصم أخرى بدأت بالصعود وتتعلم الدرس بسرعة. في الكويت، كان شق الطرق في المدينة الجديدة يسير بالتوازي مع رعاية المشاريع الثقافية، ومع ازدهار المسرح والدراما، ومع استكشاف التراث.

ثم غلب السياسي على الثقافي. بدأت رحلة التآكل. الغناء تحوّل إلى أناشيد وطنية. النحت تماثيل تمجد القادة. اللوحات التشكيلية صور من المعارك أو من المعاناة أو لأمجاد حقيقية وأخرى مزيفة. صار بإمكانك العثور على فرقة اسمها “المسرح العسكري”. هل يوجد أسوأ من هذا المسمّى؟ الأدب هو أدب الصراعات والمعارك. السينما تراجعت بين أفلام المقاولات، وأفلام سوداوية تجريبية تهرب من الواقع. ويا ويلنا ممّا فعل بنا الشعراء.

هذا لا يعني أن الساحة قد خلت من المثقفين. كانوا يشاهدون مشهد انكسار الحواضر الثقافية بحزن وينتظرون خروجا من الأزمة. طال الانتظار ولا زالت الأمور على حالها في هذه المدن.

في لحظة تاريخية مهمة، قدّم الخليج نفسه كبديل. أهلا بالمثقفين العرب. هذه المهرجانات، وهذه المبادرات وهذه المشاريع. والأهم، لدينا المال الذي يمكن أن يساعد في تحريك المشهد الثقافي. مال وفير أنفق بسخاء ملموس.

تذهب إلى العاصمة الخليجية فترى الحركة المعمارية والحضرية على قدم وساق. تطمئن كمثقف لأن هذا هو الطبيعي. البعد السياسي كان غائبا نسبيا. الخليجيون كانوا يهدفون فعلاً إلى أن تصبح مدن الخليج حواضر الثقافة العربية البديلة. كانت المنافسة بين العواصم على قدم وساق. وأجمل ما في المشهد هو تنوّعه. مدن اختارت التراث. أخرى مزجت بين التراث والمعاصرة. ثالثة، وضعت بعض الرمزيات التراثية الموجودة واعترفت أنها محدودة وأنها بصدد تأسيس ثقافي جديد على أسس العالم المتغير.

الخليج كان يدرك المتغيرات. من الصعب تصوّر خروج بلد من هيمنة السلفيين، مثلا، من دون ثقافة. الإسلاميون سبقوا المثقفين إلى الخليج، وكان من الضروري تفكيك منظومتهم هناك. يستطيع السياسي أن يتخذ قرارا أمنيا بحجر نشاط لأشخاص ومجموعات. لكن التأثير الحقيقي على المجتمع يمرّ من خلال إعادة تركيبه ثقافيا بأدوات مختلفة، منها الثقافة بفعلها المباشر، والآخر بالفعل غير المباشر من خلال الإعلام.

في مسعاها هذا، استأجرت دول الخليج مساحات ثقافية في العواصم التقليدية. الإنتاج الدرامي يتم في سوريا ومصر. الاستعراضات في لبنان. الدراما التاريخية تصوّر في المغرب. ولم تنس هذه الدول نفسها في الإنتاج الخليجي. صعدت الدراما وصارت مطلوبة. صحيح أن الوجوه مكررة إلى حد الملل، لكنها موجودة وبياعة وحاضرة. فقط تحمل لمسات البوتوكس والفيلر على الوجوه.

استعارت دول الخليج من الخزين الثقافي العربي في مواجهة التطرف أيضا، وصرنا نرى انطلاقات لافتة في الحديث عن عقد المجتمع التكفيرية والسلفية. الهدوء الذي يعمّ الخليج الآن وتراجع تصدير الانتحاريين إلى دول الجوار وتوقف التبرعات الجهادية، ليست نتيجة فقط لشدة القبضة الأمنية. الثقافة كانت حاضرة. مسلسل واحد يمكن أن يغيّر أفكار مئات الآلاف من الناس. فيلم وثائقي عن كوارث الحروب في الدول المجاورة يمنح الكثير من السكينة في مجتمعات تعودت على السلام والثراء والتنمية.

المشكلة الآن في الانحسار. لأسباب مالية وسياسية، تسحب دول الخليج من تمويلها أو استضافتها أو تبنّيها للمثقفين. لا نقول أنفقوا، بل نقول انظروا إلى الحواضر السابقة وتأكدوا أن رعاية الثقافة لا تقلّ أهمية عن اقتناء أفضل الأسلحة المتقدمة. لا تضيعوا تلك الأنوار.

* كاتب عراقي -مجلة الجديد اللندنية .