مدى برس/ المركز المصري للدراسات الاستراتيجية:
ليس هناك الكثير من الأدبيات الأكاديمية حول تاريخ تنظيم الإخوان المسلمين مع الغرب. ومع أن التنظيم العالمي للإخوان متواجد في دول عديدة حول العالم خاصة أوروبا منذ نحو ستة عقود ونشاطه ليس سرًا؛ إلا أنه لا يُعرف سوى القليل عن الروابط الدقيقة بين تنظيماته في أوروبا وبين التنظيمات المحلية له في العالم العربي. فتنظيمات الإخوان في الغرب لا تعمل في معزل، ووجودها في الغرب لم يمنع ارتباطها بشكل علني بجمهور معين في الشرق الأوسط. على سبيل المثال، تتواصل قواعد الإخوان في ألمانيا مع الإخوان المسلمين في تركيا وسوريا. بينما تعمل تنظيمات الإخوان في بريطانيا مع قواعدها في العراق ومصر وغزة. كما ترتبط تنظيمات إسلامية فرنسية بشكل مباشر بالأحزاب السياسية الرئيسية في الجزائر وتونس. وهناك علاقات تنظيمية بينهم وأهداف مشتركة تتمحور حول الإبقاء على التنظيم كلاعب سياسي في جميع أنحاء العالم العربي.
وهناك إدراك متزايد في الغرب لأن اللعب بورقة الإسلام السياسي له تكلفة باهظة بالنسبة للغرب نفسه مع تفاقم تجنيد الأوروبيين المسلمين عبر الإنترنت، والارتفاع الملحوظ في ظاهرة “الذئاب المنفردة”، أي هؤلاء الذين يتم تجنيدهم للقيام بعمليات إرهابية داخل أوروبا بدون أن تكون لهم صلات تنظيمية سابقة مع الجماعات الأصولية والمتطرفة.
لكن تطورات العقد الأخير (2010-2020) جعلت مجموعات الإخوان في أوروبا في وضع أضعف نسبيًا سياسيًا وهيكليًا وماليًا. فالتحول نحو الراديكالية السياسية العنيفة، ومخاوف الغرب المتعاظمة من التطرف الديني وتجنيد متشددين، والعمليات الإرهابية التي هزت أوروبا بعنف خلال السنوات القليلة الماضية؛ كل هذا جعل جماعات الإسلام السياسي وفي مقدمتهم الإخوان في الغرب أكثر ضعفًا بسبب نضوب التواصل معها، وتراجع دعمها سياسيًا، وتجفيف منابع تمويلها تدريجيًا.
وخلال هذا العقد تم ظهور عدد من الوثائق الرسمية البريطانية التي توضح جذور العلاقة بين الإخوان وبريطانيا بعيدًا عن التكهنات والنظريات المختلفة حول هذه العلاقة. وهذا المقال سيكون بداية لعدة مقالات تقدم قراءة في هذه الوثائق بحثًا عن تفسير دقيق لهذه العلاقة المركبة بين جماعة الإخوان والغرب بصفة عامة، وبريطانيا على وجه الخصوص.
الجذور والبدايات:
لكن لوجود تنظيم الإخوان في الغرب تاريخ طويل يعود لأبعد من العقود القليلة الماضية، فقد ساعدت الكثير من وثائق وملفات الأرشيف البريطاني والوثائق الحكومية الأمريكية التي يُكشف عنها بشكل دوري، في إلقاء الضوء على تاريخ العلاقات بين تنظيم الإخوان المسلمين وبريطانيا خصوصًا والغرب عمومًا.
وبرغم أن هناك الكثير من الكتب السياسية التي تناولت القضية؛ إلا أن الأعمال الأكاديمية التي تتناول جذور تلك العلاقة وآثارها في ضوء تمحيص المتاح من الوثائق الحكومية الأمريكية والبريطانية ليست كثيرة؛ لأنها تعتمد بالأساس على ما يتم الإفراج عنه من وثائق حكومية سرية بريطانية وأمريكية وأوروبية.
ولا شك أن أحداث الربيع العربي التي دفعت الإخوان المسلمين لصدارة المشهد السياسي في العديد من الدول العربية من بينها مصر وتونس وليبيا والسودان، حفزت المزيد من الباحثين على العودة للوثائق والأوراق السرية في الأرشيف البريطاني والأمريكي والغربي، لمحاولة فهم العلاقة المعقدة والمتشابكة بين تنظيم الإخوان والغرب.
ومن ضمن تلك الكتب كتاب “الإخوان المسلمون والغرب: تاريخ العداوة والارتباط” الصادر عن جامعة هارفارد الأمريكية، والذي اعتمد مؤلفه مارتن فرامبتون، أستاذ التاريخ في جامعة “كوين ماري” البريطانية، على كم هائل من الوثائق والملفات والتقارير السرية التي يُكشف عن بعضها لأول مرة في كتابه.
ازدواجية الرؤية البريطانية للإخوان: موقف كلاسيكي
يقول فرامبتون، إنه منذ البداية، أي في عقدي الثلاثينيات والأربعينيات في القرن العشرين، ظهر هذا التناقض بين رؤية الغرب السلبية لتنظيم الإخوان بسبب أيديولوجيتهم، التي وصفها الدبلوماسيون البريطانيون في القاهرة في رسائلهم الدبلوماسية السرية إلى لندن بـ”الظلامية” و”المنغلقة” و”المحرضة على الأجانب”، وبين التواصل مع التنظيم لتحقيق مصالح سياسية آنية، جلها مرتبط بإضعاف الحركات المدنية الديمقراطية والأحزاب والشخصيات التي تكافح الاحتلال البريطاني لمصر.
ووفقًا لما تكشفه الوثائق البريطانية، لم يحصل تنظيم الإخوان في البداية على اهتمام البريطانيين. لكن هذا بدأ يتغير في مطلع الثلاثينيات من القرن العشرين عندما حول التنظيم اهتمامه نحو الأجندة السياسية، وانتقل مؤسسه حسن البنا إلى القاهرة عام 1932، حيث تم تعزيز الهيكل التنظيمي للحركة.
وبحلول نهاية الثلاثينيات، لم يعد الإخوان تنظيمًا دعويًا، بل تنظيمًا سياسيًا شبه عسكري. وفي أبريل 1936، أرسل المفوض البريطاني السامي إلى مصر، السير مايلز لامبسون، برقية إلى لندن تضمنت تقريرًا من القسم الخاص بوزارة الداخلية المصرية، أعطى تفاصيل “حفل شاي” عقده فرع من “جمعية الإخوان المسلمين”، بمناسبة زيارة وفد كبير من جمعية خيرية سورية.
وكان معظم الحاضرين (نحو 200 شخص) طلابًا من جامعة فؤاد الأول أو جامعة الأزهر، وقد وُصفوا في التقرير بأنهم “شباب متطرفون”، وعبّر كاتب التقرير عن قلقه من أن جماعة الإخوان مع الوقت ستخلق “جيلًا متهورًا وغافلًا”.
وبعد ما يزيد قليلًا على شهر من صدور المذكرة، أرسلت السفارة البريطانية في القاهرة 1936 تقريرًا آخر إلى لندن جمعه مدير الأمن العام المصري، وركز فقط على الإخوان في علامة على تزايد القلق منهم.
أما السير مايلز لامبسون، وفي إشارة مباشرة إلى تنظيم الإخوان، فقد أشار إلى أن مصر شهدت “تكاثرًا للجمعيات الإسلامية ببرامج ظلامية”، تدعو “لإحياء ادعاءات العصور الوسطى لأسلمة الهيكل القضائي والإداري للدولة”، وفي تقييم لامبسون: “لا يمكن أن يأتي أي خير من هذه التحركات”.
الإخوان “لاعب سياسي” في حسابات سلطة الانتداب البريطانية:
اهتمام البريطانيين بتنظيم الإخوان ازدادت وتيرته مع تحرك التنظيم أكثر للانغماس في الشأن السياسي. ففي هذه المرحلة، أقام حسن البنا علاقة جيدة مع “الرجل القوي” في السياسة المصرية، علي ماهر باشا، الملقب أيضًا بـ”رجل الأزمات”، والذي ظهر بعد عام 1937 كشخص قوي التأثير على الملك الشاب فاروق. فقد كان علي ماهر رئيسًا للديوان الملكي، ويسعى للعودة إلى منصب رئيس الوزراء (بعد أن خدم لفترة وجيزة في هذا الدور في عام 1936).
كانت العلاقة الغريبة والمزدهرة بين علي ماهر والإخوان سببًا واضحًا للقلق لدى البريطانيين، فقد قدم رجال في القصر مساعدات مالية وتشجيعًا سياسيًا لتنظيم الإخوان، وذلك في إطار مساعي تطويق “الوفد” وضرب البرلمان والتعددية الحزبية التي لم تكن “إسلامية” بالنسبة للإخوان.
ورغم أن حسن البنا نفى إقامة علاقات سرية مع نخبة القصر أو حصوله على أموال أو مساعدات منها؛ إلا أن هذا النفي لا يستقيم مع الكثير من الوثائق التي تم الكشف عنها في الأرشيف البريطاني، والتي يرصدها فرامبتون في قبول التنظيم تبرع كبير من شركة قناة السويس الحكومية، مما ساعد الإخوان على بناء أول مسجد لهم في الإسماعيلية. كما حصل الإخوان على تمويل من وزارة الشئون الاجتماعية من أجل أعمالهم في مجال الرعاية الاجتماعية. علاوةً على ذلك، كانت هناك تقارير تفيد بأن الإخوان قد تلقوا أموالًا من قوى أجنبية من بينها إيطاليا وألمانيا وبريطانيا.
ويقول فرامبتون: “الحقيقة هي أن البنا كان على استعداد تام للتعاون مع النخب الاجتماعية والسياسية وتأمين الدعم منهم لتنظيم الإخوان، سواء على المستوى المحلي أو على المستوى الوطني. كان يسعى دومًا إلى تجنب استعداء الأعيان المحليين، كما كان الإخوان حريصين على تأكيد الولاء للملك، وأنشأت المجموعة علاقات دائمة مع أعضاء الطبقة العليا المصرية، مثل علي ماهر باشا. في كل هذا، كشف البنا عن تفضيله استراتيجية البراجماتية السياسية، وقد ساعده هذا في تعزيز نفوذه على المستوى القومي، كما كان يُنظر إلى الإخوان على نحو متزايد على أنهم قوة مهمة مناهضة للوفديين لا يمكن تجاهلها”.
وتزايدت المخاوف بشأن تنظيم الإخوان وأفعاله خلال النصف الأخير من الثلاثينيات. فمن وجهة نظر بريطانية، كان صعود الإخوان مرتبطًا بتدهور البيئة الاجتماعية والسياسية في مصر، وكان ينُظر إلى الحركة على أنها تشكل خطرًا على مصالحهم. ومع ذلك، لم يكن الجميع مقتنعين بأن الإخوان لا يمكن التفاهم معهم.
وفي أوائل عام 1940، كان السؤال الأكثر إلحاحًا بالنسبة للمسئولين البريطانيين في القاهرة هو ما إذا كان يمكن الوثوق بالحكومة المصرية برئاسة علي ماهر؟
ومع أن ماهر اقترح أن تصبح القاهرة “مدينة مفتوحة” لحمايتها من ويلات الحرب العالمية الثانية؛ إلا أن هذا لم يُخفف قلق لندن من تعاطف القصر والحكومة مع الإيطاليين.
حسن البنا “براجماتي”:
وبحلول يونيو 1940، نفد صبر السفير البريطاني لامبسون من علي ماهر. وفي تقييم لامبسون، كان ماهر “غير متعاون، لا يمكن الاعتماد عليه ومزدوج الوجهين”، واستمراره في المنصب يمثل تهديدًا حقيقيًا لبريطانيا.
وذهب لامبسون إلى الملك فاروق وأصر على إقالة علي ماهر وتعيين حكومة بقيادة الزعيم الوفدي مصطفى النحاس، لكن بدلًا من الاتصال بالنحاس، طلب الملك فاروق من السياسي المستقل حسن صبري باشا تشكيل وزارة. وأدرك لامبسون على الفور أن تعيين صبري الذي “لم يكن لديه أي دعم سياسي في البلاد”، يجعل الإنجليز معتمدين تمامًا على القصر وعلى الملك. واستمر هذا الوضع المتوتر حتى نهاية عام 1940، حيث تم استبدال حسن صبري باشا بحسين سري باشا الذي كان ينظر إليه على أنه خطوة “مشجعة بشكل واضح”.
وخلال السنة الأولى من الحرب، ومع تقاعس القصر عن التحرك ضد تنظيم الإخوان (الورقة المفيدة ضد الوفد وغيره من الأحزاب)، بدأ بعض المسئولين البريطانيين في تجربة بدائل للتخلص من التهديد الذي تشكله الجماعة، من بينها الحوافز المادية.
وفي كتابه عام 1950 عن تنظيم الإخوان المسلمين، اعترف الرحالة والمستشرق البريطاني “جيمس هيورث دن” بفتح قنوات اتصال بين البريطانيين والتنظيم خلال الحرب العالمية الثانية في محاولة لإقامة نوع من التحالف مع الإخوان. وبحسب جيمس هيورث دن، فإن تنظيم الإخوان هو الذي بدأ مسار فتح قنوات اتصال نهاية 1941 عندما أرسل حسن البنا عبر وكلاء، رسالة مفادها أنه مستعد للتعاون مع البريطانيين، معطيًا الانطباع بأنه سيقبل مدفوعات مالية. ويقول جيمس هيورث دن إن ممثلي الإخوان في تلك الاجتماعات شملوا الحليف المقرب من البنا أحمد السكري الذي طلب مبلغ 40 ألف دولار وسيارة مقابل دعم بريطانيا.
ويذكر فرامبتون أن ريتشارد ميتشل أستاذ تاريخ الشرق الأوسط بجامعة ميتشجان الأمريكية ذكر بدوره أن قادة تنظيم الإخوان في ذلك الوقت اعترفوا بلقاءات ومناقشات مع المسئولين البريطانيين، لكنهم على عكس المصادر البريطانية، يقولون إن مبادرة فتح قنوات تفاهم جاءت بمبادرة من لندن التي حاولت “شراء” الإخوان عبر وساطة جيمس هيورث دن.
كما يستعرض فرامبتون مصدرًا آخر للمعلومات حول تلقي التنظيم أموالًا من بريطانيا، هذه المرة تأتي من الصحفي الأمريكي المتجول جون روي كارلسون الذي سافر إلى مصر وفلسطين وسوريا والذي نشر تقريرًا مطولًا حول رحلته تحت عنوان “من القاهرة إلى دمشق”، روى فيه تأكيدًا للقصة من خلال شهادة أحمد السكري، فقد أكد السكري لكارلسون أن هيورث دن شارك في اللقاءات بين الإخوان والبريطانيين خلال الحرب.
وبحسب رواية السكري لكارلسون فإنه في عام 1940، زار البريغادير البريطاني الجنرال كلايتون مقر تنظيم الإخوان المسلمين في ميدان الحلمية الجديدة في القاهرة، بتحريض من هيورث دن. وخلال المقابلة أخبر كلايتون البنا والسكري أن البريطانيين يتوقون لأن يكون لديهم “أصدقاء بدلًا من الأعداء وسط الإخوان المسلمين”.
بعد ذلك، قام هيورث دن والميجور البريطاني جودوين بتناول العشاء مع قادة التنظيم. ووفقًا للسكري، جاءت ذروة هذا التقارب في نوفمبر 1940 عندما زار هيورث دن السكري في منزله وتحدث بالعربية وعرض عليه مبلغ 20 ألف جنيه مصري لـ”مساعدة الإخوان في عملهم مقابل ترديد دعاية مؤيدة لبريطانيا”. وقال السكري إنه رفض العرض، لكن البنا بعد ذلك قبل مبلغ 10 آلاف جنيه من البريطانيين.
مجمل القول هو ما خلُص إليه فرامبتون من أن الاستعداد لإبرام مثل هذه الصفقة مع البريطانيين “ينسجم مع ماضي حسن البنا وممارساته اللاحقة.. فقد كان يعمل بطريقة براجماتية للغاية، خاصة عندما يتعلق الأمر ببناء العلاقات وتأمين الدعم المادي لحركته. فخلال الحقبة التكوينية للإخوان أخذ البنا أموالًا من شركة قناة السويس. ومن المرجح تلقيه تمويلًا من ألمانيا؛ كما قام بتحالف مع علي ماهر” رجل القصر القوي.
ويتابع فرامبتون: “بهذه الخلفية، لن يكون مفاجئًا إذا ما كان البنا منفتحًا لقبول أموال بريطانية.. ولعل الأمر الأكثر أهمية هو حقيقة أن السلطات البريطانية كانت مستعدة لتقديم مثل هذه الإغراءات المالية. فما كشفته هذه الحالة، عندما يتم وضعها إلى جانب حوادث مشابهة مع تنظيم مصر الفتاة، هي طريقة معينة للقيام بأمور كانت سائدة في الدوائر البريطانية خلال الحرب.. وكان جوهر هذا النهج هو الاعتقاد بأن كل منظمة أو فرد هو في نهاية المطاف يمكن تطويعه، بغض النظر عن مدى عدائه العلني للبريطانيين”.
وفي كل الحالات كانت هذه هي المقدمات الأولى للعلاقات المركبة والخفية والمعقدة بين تنظيم الإخوان المسلمين وبريطانيا. فلاحقًا ستتقاطع المصالح والعلاقات أكثر.