تفاصيل

الأحد - 09 مايو 2021 - الساعة 12:48 ص بتوقيت اليمن ،،،

مدى الثقافي/ إعداد- سماح عادل*


“أونوريه دي بلزاك” روائي فرنسي، يعد مع “فلوبير”، مؤسسا الواقعية في الأدب الأوروبي. اتسم بالإنتاج الغزير من الروايات والقصص.

حياته..

ولد “أونوريه دي بلزاك” في مدينة تور الفرنسية في 20 مايو 1799، والده “برنار بليسا” وغير اسمه إلى “بلزاك”، عمل كاتب ضبط عدلي، وأمه “آن شارلوت سالمبييه” امرأة جافة عرفت ببرود علاقتها مع أبنائها، وكان ينتمي لعائلة متوسطة، ولدت شقيقته “لور” بعده بعام 1800 وأصبحت كاتبة لكنها لم تنال شهرة أخيها.

في 1813 قطع “بلزاك” دراسته بثانوية “فاندوم” بسبب مصاعب عقلية، ثم استأنف الدراسة في 1816، بدأ الكتابة في عمر العشرين حيث ألف قصصا بأسماء زائفة، من أبرز تلك القصص تراجيديا لم يتمكن من نشرها هي “كرومويل” 1820، وقصة أخرى لم يستكمل كتابتها بعنوان “ستيني” وفي1822 كتب قصص أخرى مثل “وريثة بيراج” و”جان لويس” و “المئوية” و”كاهن الأردين” ثم “الجنية الأخيرة” و”آنيت والمجرم” 1824 ثم “شفرة المستقيمين” وقصص أخرى كثيرة. وكانت القصص والرواية في ذلك الوقت أقل مرتبة من الشعر والنقد، لكن كان لها جاذبية لدى السيدات، وكان الناس يتعجبون بسبب غزارة إنتاجه الأدبي.

في عام 1826 عمل “بلزاك” ناشرا وكان صاحب مطابع واستمرت كتبه ودراساته تصدر فنشر “الثوار الملكيون” 1829 و”فيزيولوجيا الزواج” وشارك في كتابة سلاسل نشرتها الصحف السياسية، ثم “متواجد في العراء” 1830 وفي نفس السنة “منزل القط المداهن” و”إكسير الخلود” وفي السنة التي تليها نشر أعمال كثيرة منها “إهاب الحزن” و”العمل الخالد المجهول” ثم “روايات وقصص”.

وفي 1832 ظهرت المجموعة الأولى من سلسلة “قصص فكاهة” ثم الجزء الثاني في 1833 ثم روايته الشهيرة “أوجيني جراندي” مما ساعده على نشر أعمال أخرى وتحسنت أحواله المادية، ثم ارتبط عاطفيا في 1834 بالسيدة هانسكا، ونشر “تاريخ الثلاث عشر” و”البحث عن المطلق” ثم “الأب جوريو” و”ميلموث المتصالح” 1835.

وفي تلك الفترة تولى رئاسة تحرير مجلة “وقائع باريس” وعاني من أزمات مالية، خاصة بعد موت السيدة “دي برني” التي كانت تموله، وقد نشر روايته “العانس” مسلسلة في صحيفة “لابريس” ابتداء من أكتوبر 1836 بدلا من إصدارها في كتاب كما اعتد أن يفعل.

وفي 1837 نشر كتابين من أهم كتبه هما “أوهام ضائعة” و”جمبارا” وأعمال أخرى هامة مثل “المستخدمون” و”أبهة وبؤس البغايا” 1838، ثم “بياكتريس” و”خوري القرية” و”أسرار الأميرة دي كادنيان” وكلها في عام 1839، وفي 1840 عاد يعمل رئيس تحرير “للمجلة الباريسية” مع سياساته الإدارية السيئة وعاني مرة أخرى من الأزمات المالية والديون وذهب للإقامة في باسي بعيدا عن باريس، مما أدى إلى التفرغ لآخر عام 1840 فنشر “الأمير البوهيمي” مسلسلة في الصحافة.

في1841 نشر “المعلمة الموهومة”، ثم “مذكرات الزوجتين الشابتين” 1842 و”قضية غامضة” 1843، و”بداية في الحياة” 1844، ثم “الكوميديا البشرية” وتعد أشهر كتبه، وفي نفس العام نشر دراسات تاريخية من أهمها “حول التاريخ المعاصر” ودراسة أخرى عن حياة “كاترين دي مديشي” المنتمية إلى عائلة مديشي الشهيرة في عصر النهضة الإيطالية، وفي عام 1845 كان يسافر كثيرا مع حبيبته البولونية “السيدة هانسكا”، لكنه استمر في إصدار الكتب ، أو المقالات التي يدافع بها عن كتاباته كما حدث 1846 حين دافع عنها وعن عدم تعارضها مع الأخلاق العامة في “رسالة إلى هبوليت كاستيل” أو حين نشر “الكوميديون دون أن يشعروا” مسلسلة أيضا 1846. وفي1847 أقام مع “السيدة هانسكا” بأوكرانيا، وتزوجها في 14 مارس 1850، قبل وفاته بفترة قليلة.

كان ” بلزاك” يكتب 18 ساعة في اليوم، وكان ينشر مجلدات كتبها في أسبوع، وقد رصد في “الكوميديا البشرية” الصراع الذي بين الفلاحين والملاك، بين التجار والمستخدمين، متأثرا بوالده الذي كان “ثوريا” على طريقة كتاب الضبط العدلي.

القصص الرائجة..

عندما شرع “بلزاك” في الكتابة في الربع الأول من القرن 19 كانت الرواية والقصة التي تلقى رواجا بين إحدى ثلاث: غرامية، أو قصة سوداء، أو فكاهة، الأولى تصور مغامرات غرامية لأبناء الطبقة الراقية، مع الاهتمام بالمواعظ الأخلاقية، والتضاد بين اللذة والفضيلة، ونصح القارئات الشابات بطاعة أمهاتهن والبعد عن الغواية، مع جرعة من الأحلام والخيال، والقصة السوداء كانت تقوم على الحوادث الغريبة، الخارقة، والمخيفة، وتدور أحداثها في الدهاليز والسراديب المظلمة عادة ، ويكون أبطالها عفاريت ومسوخ، وأرواح شريرة أو خيرة، تتقمص بعض الأبطال، أو تسكن في قلاع أو قصور مهجورة، وتتميز القصة السوداء بوحدة المكان الذي يكون عادة قصر أو بيت مسحور أو مسكون بهذه الخوارق.

وكانت القصة الفكاهية أو الساخرة تتناول هموم الطبقتين الوسطى و الدنيا وتعتمد على المفارقات والمواقف غير المرنة والحيل اللفظية، والعقد، وغيرها من سبل السخرية وفنون الإضحاك. كتب “بلزاك” الأنواع الثلاثة، وقد استفاد في وقت مبكر من مقومات الرواية التاريخية كما أظهرها الأديب الاسكتلندي “ولترسكوت” الذي كان مدينا له مثل معاصريه بالكثير.

ورغم ذلك الحدود بين هذه الأنواع الثلاثة الرائجة في ذلك الوقت، لم تكن واضحة ومحددة أحيانا في بعض أعمال “بلزاك”، فمثلا في قصة “وريثة بيراج” تدور أحداث القصة في القرن 17 حيث مغامر إيطالي “فارس أحلام” يتزوج الفرنسية “لويزدي بيراج” ليستولي على ثروتها، فهذه قصة غرامية أولا، لكنها تتحول إلى قصة سوداء، تدور أحداثها في قصر مسحور، يحاول المغامر الشرير استغلال معرفته بأسرار كثيرة وغامضة، إلى حين ظهور روح خيرة، تخلص الفتاة الضحية من زواج الإكراه المفروض عليها.

وينطبق هذا أيضا على قصة “كلوتيلد دي لويزنيان” حيث الملك “جانت” هاربا من بلاده قبرص، ولاجئا بإقليم بروفنس الفرنسي، بعد صراعه مع قراصنة البندقية، وهنا يتآمر قرصان شرير لتسليمه إليهم، فيدافع عنه الفارس الكونت جاستون، لذا يقرر تزويجه بابنته الجميلة كلوتيلد، إلا أن هذه مغرمة بشاب وسيم، فترفض الزواج إلى حين تنكشف العقدة، وهي أن الكونت جاستون هو نفسه الشاب الوسيم، وهكذا تختلط القصة الغرامية مع القصة السوداء أيضا حسب معايير تلك الفترة.

الواقعية..

بعد عدة كتابات أثقل “بلزاك” تجربته التي تطورت ونضجت بغزارة إنتاجه الأدبي واستطاع أن يقدم روايات أطول وأكثر انسجاما وتماسك في الحبكة، واستطاع تأسيس بدايات الرواية الحديثة مع رؤية واقعية سيشتهر بها فيما بعد، وسيثني عليها “سانت بوف ولامارتين وستندال”، وبعد ذلك “مارسيل بروست”، وسينحفر اسم “بلزاك” في تاريخ الأدب الروائي العالمي.

ومميزات هذه الواقعية القدرة على التقاط مشاهد الحياة العادية، وتحويلها إلى أيقونات متناسقة لرؤية موحدة للحياة، مع تركيز خاص على القضايا الأخلاقية التي كانت تهز المجتمع الفرنسي الذي يعاني من إخفاقات الثورة التي تحولت من حلم للملايين، إلى وحش هائج يأكل أبنائه، رغم الشعارات البراقة التي حملتها في البدء، فكان “بلزاك” شاهدا على عصر التحولات بين أحلام القرن الثامن عشر وكوابيس التاسع عشر، ورومانسيته أيضا، وهي شهادة ثمينة سجلت أكثر من مرة، وأخيرا جمعها في سلسلة من أعماله، دائم بينها بطريقة عجيبة، ونشرها في مجلدات أسماها “الكوميديا البشرية” تيمنا ب”دانتي”، وأيضا فضحا لعصر دراماتيكي انقشعت فيه هشاشة وزيف الطبقة البرجوازية وحلم فاوست الذي استبطنته، واتضح فيه أن دعاوى عصر الأنوار كانت غير مضمونة النتائج، وبالتعبير عن هذه النهاية، نهاية الحلم، كان “بلزاك” يقف على شرفة حلم آخر هو الحلم الرومانسي بكل تفاصيله ولا واقعيته وهنا المفارقة.

بسبب غزارة إنتاجه الأدبي لكثرة وتنوع القصص يصفه بعض النقاد كأب للواقعية، أو للرواية البوليسية، أو للرواية الجديدة، والذين يصنفونه يعتمدون على جزء من أعماله دون جزء آخر، وهي أعمال غير متناسقة مع بعضها البعض، إن لم نقل إنها غير متكاملة وغير كاملة بطبيعة الحال شأن أي عمل أدبي.

سارد التفاصيل..

في مقالة بعنوان “بلزاك سارد الجوهر والتفاصيل” يكتب “صلاح أحمد”: “نحيي ذكرى الروائي الفرنسي أونوريه دو بلزاك بعد 170 سنة على وفاته لأنه كان أول كاتب يوظف القصة الخيالية ليوثّق عبرها مختلف مظاهر الحياة في مجتمعه في فترة معيّنة في التاريخ، وبهذا وحده صار أبرز مؤسسي الواقعية الاجتماعية، وهي التيار الأدبي الرئيسي الذي ينتمي إليه معظم كتْاب الرواية حول العالم، يعود مصدر الواقعية الاجتماعية في كتابات بلزاك إلى وصفه المتناهي الدقة لشخوصه ومحيطاتها. وهذا لأنه كان يؤمن بأن “العمل الروائي العظيم يكمن في التفاصيل”: مثلاً، شكل الغرفة وأثاثها وألوانها وما إن كان المقعد يميل قليلاً لأن إحدى أرجله أقصر من البقية، وعلى أي هيئة كانت ثياب المتحدث عنه وما إن كان خيط تائه يتدلى من كُم قميصه… الخ. وكان يعتقد أن إغراقه في نقل دقائق مسرح الأحداث وإسهابه في وصف شخوصه مهمّان لنفخ الروح في قصصه لأن مهمتها الأولى والأخيرة هي نقل صورة أمينة للوجود الإنساني على أرض الواقع”.

ويضيف: “والواقع أن هذا الروائي اعتنى في قصصه بعنصرين، هما الجوهر المظلم الكامن في الطبيعة البشرية، وما كان يعتبره “التأثير الفاسد للطبقات الوسطى والعليا في المجتمع”. وهذان أمران لم يستلزما منه – على سبيل البحث والتقصي – أكثر من أن يخرج إلى الطرقات وأن يراقب الناس ومجريات أمورهم ليعود بالمواد الخام لرواياته.

تبعاً للمؤرخين الأدبيين فقد تبدل منظور بلزاك عبر الزمن من اليأس إزاء ظلمة الوجود الإنساني إلى التضامن في الظلمة… ولكن ليس إلى حد التفاؤل بالمخرج. ويشير هؤلاء إلى التبدل التدريجي الذي حدث بين أهم رواياته الأولى وهي “جِلد الأحزان” التي تعكس صورة متشائمة للواقع وسط قدر هائل من الدمار والفوضى، وروايات لاحقة مثل “أوهام ضائعة” التي تفيض بالتعاطف مع أولئك الذين همّشهم المجتمع وأفقدهم القدرة على المساهمة الإيجابية في تقدمه. ويبدو أن هذا تأتى لأن بلزاك عزز قناعته بأن الرواية هي “أفضل تعبير للديمقراطية الأدبية” كونها “تُكتب للجميع بغض النظر عن المقام الطبقي للمتلقي””.

وفاته..

توفى “أنوريه بلزاك” يوم 18/8/1850، وقد وجدوا كم كبير من المخطوطات لأعمال مكتملة أو ناقصة بالعشرات لم تنشر في حياته

* كاتبة وصحفية تقيم في القاهرة - موقع كتابات