السبت - 12 يونيو 2021 - الساعة 09:38 م بتوقيت اليمن ،،،
مدى الثقافي/ فاروق يوسف*
أن يكون المرء رساما متمكنا من أدواته، أليس ذلك في حد ذاته هدفا رائعا؟ أقلية من الرسامين تريد أن تصل من خلال الرسم إلى هدف سواه أو أن الرسم يصل بها من غير أن تخطط إلى ذلك الهدف.
اللبنانية ذات الأصول الأرمنية سيتا مانوكيان تنتمي بعمق وجدارة إلى تلك الأقلية الموهوبة بالقلق. ميزتها أنها كانت تعرف ما الذي تريد وتدرك أن الرسم سيصل بها إلى المحطة التي ينفتح فيها تأملها على قوى روحية كامنة في أعماقها.
من بيروت التي أحبتها ورسمتها بشغف مَن تخشى الفقدان إلى لوس أنجلس كان لا بد أن تقود طريقها إلى الهند وسيريلانكا والنيبال. رحلة مقلوبة قامت بها الروح قبل أن يتكبد الجسد عناء مشقتها.
سيرة بسنوات صامتة
لم تكتف مانوكيان بالتجربة الإنسانية التي يمكن أن ينعكس أثرها بقوة من خلال الرسم بل قررت أن تخوض غمار التحول إلى راهبة بوذية كاملة، بمعنى أنها قررت أن تشرف بنفسها على ولادتها الجديدة بكل ما تنطوي عليه تلك الولادة من تخلّ عن كل اللذائذ الدنيوية ومن ضمنها الرسم.
حين أصبحت راهبة تركت الرسم لأنها وجدت معنى مختلفا لحياتها أما حين عادت إليه بعد سنوات فإنها لم تعد الرسامة التي عرفتها بيروت. أنى درولما ليست سيتا مانوكيان. تقول “فهمت من الجدار الأبيض أن كل شيء يأتي من الباطن” أنى تكتفي بضربات ولطخات سريعة فيما كانت سيتا تحتضن المدينة بكل ما فيها من بشر وشوارع ومقاه وحانات وبيوت.
تقول درولما “الجمع بين الفن والرهبنة صعب جدا. أحيانا أفكر في العودة إلى قطيعتي الفنية، من أجل التركيز والتأمل لكني أجد من ناحية أخرى أن من واجبي أن أرسم”.
غير أن المرأة التي عاشت عشر سنوات من الحرب الأهلية وكانت مولعة بفكرة أن يقوم الرسام بكتابة يومياته من خلال الرسم لم تجد حين عادت إلى الرسم المدينة التي رسمتها ببشرها الطافحين بالأمل والتفاؤل ومزاج البحر المتوسط العاصف الذي وهبها القدرة على التماهي مع تقلبات الحرية. لقد تغير شيء ما في الأعماق. وهو تغير أصاب طرفي المعادلة. فلا بيروت هي المدينة ولا الراهبة البوذية هي سيتا مانوكيان.
كانت هناك تلعثمات في سيرتها الشخصية أثرت كثيرا على أسلوبها الفني. ما بين 1985 و2005 عاشت مانوكيان تجربة التعبير عن حياتها الجديدة في لوس أنجلس، كانت الغريبة التي ترسم ظلها أما ما بين 2005 و2016 فقد حل الصمت ولم يكن هنالك رسم بل تفرّغ كامل للتأمل والعبادة.
ولدت مانوكيان في بيروت عام 1945 في عائلة مهاجرة من أرمينيا. عام 1962 درست الرسم على يد الرسام الشهير بول غراغوسيان. بعدها مباشرة نالت منحة لدراسة الفنون في بيروجا الإيطالية ومن هناك انتقلت إلى أكاديمية الفنون الجميلة بروما ما بين عامي 1964 و1970. بعد روما سافرت إلى لندن في منحة لدراسة الرسم. حين عادت إلى بيروت مارست تدريس الفن إلى أن غادرت عام 1985 إلى لوس أنجلس.
دفعها تعمّقها في دراسة البوذية إلى السفر إلى الهند والنيبال وسيريلانكا عام 2005 حيث قضت سنتين هناك كانت كافية لكي تعلن عن تحولها إلى البوذية. حين عادت إلى لوس أنجلس توقفت عن الرسم بعد أن تفرغت لأداء عملها باعتبارها راهبة بوذية حليقة الرأس. كانت ذكرياتها عن راقصة البالية التي حلمت في أن تكونها لا تزال تسكن جسدها فارع الطول.
عام 1967 أقامت معرضها الشخصي الأول. بعده أقامت في بيروت عددا من المعارض إلى أن هاجرت إلى لوس أنجلس فأقامت هناك عددا من معارضها. حين عادت إلى الرسم احتضن متحف سرسق ببيروت معرضا جديدا لها.
تنتمي مانوكيان إلى طبقة من الرسامين اللبنانيين يقف في مقدمتهم أمين الباشا سعت إلى الامتزاج ببيروت، المدينة والناس من خلال الرسم. فكانت بيروت بناسها وأزقتها ومقاهيها وشواطئها وسواها من المعالم حاضرة في رسومهم غير أن الحرب الأهلية التي بدأت عام 1975 عكرت مزاج تلك التجربة. فبيروت التي انقسمت على نفسها وصار بعضها يحارب البعض الآخر لم تعد قادرة على أن تحافظ على شكلها.
لقد عصفت الحرب بحياة الكثير من الفنانين والأدباء وكانت صدمة سيتا مانوكيان شديدة الوقع والتأثير على مجرى حياتها إلى أن قادتها تأملاتها في معنى الحياة والموت إلى التحول الذي سيغير حياتها.
يوميات المدينة
في بادئ الامر شغفت مانوكيان برسم الناس الذين تعرفهم في محيطها الشخصي، وجوها وأشكالا وحركات ومشاعر. كانت تلك الممارسة تقوّي صلتها بهويتها اللبنانية الحافلة باللقاءات الإنسانية ذات المزاج المنفتح على العالم. لم ترسم الطبيعة غير أنها كانت مطمئنة إلى أن الخيط الذي يصل بينها وبين لبنان لن ينقطع ما دامت علاقتها بالبشر على ذلك القدر من الحيوية والوضوح الإيجابي.
غير أن الحرب وضعت حدا لذلك التفاؤل. لم يعد الناس إلا ضحايا وسيطر الجلادون على المعابر التي تفصل بين البشر والمدينة، حينها امّحت تلك العلاقة التي تجعل من البشر مرايا للمدينة. فجسد المدينة صار أكثر صلابة من أن يخترقه أناس هاربون، خائفون، مذعورون يتوقعون بقلق أن يطفئ الموت الضوء في عيونهم في أيّ لحظة ينفجر فيها لغم أو تسقط قنبلة.
عبر عشر سنوات ظلت بيروت حاضرة مثل متحف صامت في رسومها. لم تتغير أسماء المناطق غير أن الإيحاء تغير. العاطفة تغيرت. كانت رسومها أشبه بمراث للذات والمدينة في الوقت نفسه. لقد رسمت الفنانة بدافع إلقاء تحية الوداع على مدينة كانت توحي بأنها ستكون عاصمة للأمل فإذا بها تتحول إلى عاصمة للخيبة.
لم تغير مسحة التشاؤم من أسلوب الرسامة فكانت القطيعة بين بيروت وسكانها هي المعادل السلبي للعلاقة العفوية والتلقائية التي كانت تربط بين الطرفين في زمن ما قبل الحرب. كانت الرسامة تكتب يومياتها لتجمع بين التوثيق والوصف والتأمل ومحاولة البحث عن المصائر المتقاطعة. لقد رسمت مانوكيان بيروت في زمني السلم والحرب فكانت رسومها بمثابة تقرير عاطفي عن حالة الإنسان.
على العالم
بعيني راهبة ترى بيروت الأخرى يوم قالت درولما لسيتا وداعا توقفت الأخيرة عن الرسم. وحين عادت إلى الرسم لم تعد إليه باعتبارها سيتا مانوكيان.
لقد تعلمت رقص الباليه في طفولتها وحال طولها الفارع بينها وبين الاحتراف. الآن مع تقدمها في السن يمكنها أن تقول “لا أزال أرقص. لكن من أجل غايات أخرى”.
ليست سيتا هي التي ترقص مثلما أن التي ترسم بعد انقطاع أكثر من عشر سنوات عن الرسم هي ليست سيتا.
بالتأكيد عادت الفنانة إلى بيروت لتراها بعين مختلفة. هي عين الراهبة المتأملة بعمق في ما هو روحي ولم تعد ترى بيروت بشكلها القديم الذي كان ينطوي على عاطفة مختلفة. عاطفة هي ليست من مادتها الأصلية. لقد انسلت الفنانة من المدينة بهدوء واستسلمت لقدرها.
الراهبة كانت زائرة ورسومها هي رسوم تلك الراهبة التي لم تعد إلى بيروت لتعيش فيها. صارت رسامة أخرى بعد أن فارقت بيروت حياتها. لذلك لم تعد الفنانة إلى مدينتها لترسمها وهي في حالة موت. كان ذلك هو سرّ تحولها إلى التجريد. بعيني راهبة صارت ترى مدينة لم ترها من قبل. تلك هي بيروت التي صارت الفنانة تتعرف إليها لتعيد رسمها لكن بأبعاد مختلفة.
* صحيفة العرب اللندنية