صحافة

الأحد - 13 يونيو 2021 - الساعة 02:43 ص بتوقيت اليمن ،،،

مدى برس/ المركز المصري للفكر والدراسات:


ظل التضارب بين القصر والبريطانيين والقوى السياسية المدنية في مصر حول كيفية التعامل مع تنظيم الإخوان المسلمين مصدرًا للخلافات والقرارات السيئة. وفي 16 مايو 1943، حضر أربعة وزراء في حكومة مصطفى النحاس اجتماعًا مع الإخوان في مقرهم بالقاهرة. وتكشف الوثائق البريطانية أن من ضمن ما تمت مناقشته عرض منصب رفيع في وزارة الداخلية على أحمد السكري أحد رجال البنا الأقوياء. وبحث منصب رفيع لحسن البنا نفسه في وزارة التعليم.

وفي لندن، كان بعض الدبلوماسيين منتقدين لقرار حكومة النحاس دفع “إعانات مالية” لتنظيم الإخوان، لكن البعض الآخر كان يرى منافع بعيدة المدى في استمرار الاتصالات مع التنظيم. ففي يوليو 1943، اقترح تقرير من عميل لجهاز الاستخبارات البريطانية يعمل في القاهرة أنه في حين أن البريطانيين يجب أن يستمروا في دعم حزب الوفد، يجب عليهم أيضًا “تأسيس علاقات متعاطفة غير رسمية مع حسن البنا”. وكان هدف المبادرة جمع معلومات لفهم التنظيم بطريقة أفضل. ثم ذهب البعض داخل الحكومة، كما يقول فرامبتون، إلى الترويج لفكرة أن تلك القنوات مع التنظيم يمكن أن تساعد في تحويل الإخوان نحو الليبرالية السياسية والاجتماعية، وتشجعهم على أن يصبحوا أكثر حداثة وعصرية. 

وبهذه الطريقة، يقدم التقرير مثالًا مبكرًا جدًا لمفهوم اكتسب قدرًا كبيرًا جدًا من الزخم خلال العقود التالية، وهو أن “الحوار مع الإخوان قد يؤدي إلى تغيير سلوكهم وأيديولوجيتهم نحو الليبرالية السياسية”. 

وتسببت مذكرة الاستخبارات في خلافات داخل الوزارات البريطانية. فقد وصفها إدوين تشابمان-أندروز المسئول في وزارة الخارجية البريطانية بأنها “مثيرة للاهتمام”، لكن نتائجها “سطحية”. كما وصف محاولات إقامة علاقات مع التنظيم بالمثيرة للسخرية، ناعتًا إياهم بـ”الجاهلين” و”المتزمتين”، و”مجموعة من التعساء” و”ليس هناك وزن ثقيل واحد” داخل الإخوان. وفي رأيه، كانت الأهمية الحقيقية الوحيدة للإخوان هي أنهم كانوا يصنعون “قتلة جاهزين”، ومن هنا كانت الحاجة لمراقبتهم.

وفوق ذلك، استمر تشابمان-أندروز في رفض فكرة أن التنظيم سوف يصل يومًا ليكون قوة سياسية كبيرة، موضحًا “من الخطورة أن نتنبأ في السياسة، لكنني أشعر بأن الإخوان لن يكونوا أبدًا في السياسة المصرية كحزب، مثل حزب الوفد”. 

ومع طرد القوات الألمانية من العلمين، أصبحت القاهرة في منطقة المياه الراكدة خلال بقية الحرب العالمية. وفي هذا السياق، بدأ العديد من المسئولين البريطانيين في التساؤل عما إذا كان ينبغي عليهم مواصلة دعم حكومة النحاس. فعلى سبيل المثال، جادل شابمان-أندروز بأن على البريطانيين أن يحاولوا التراجع مرة أخرى عن أي تدخل مباشر في السياسة الداخلية المصرية. 

لكن السفير لامبسون أصر على أن المصالح البريطانية تُخدم بشكل أفضل من خلال الحفاظ على التحالف مع النحاس لأنه “ليس هناك بديل عملي للحكومة الحالية”. وسادت هذه النظرة لبعض الوقت بعد تأييد وزير الخارجية البريطاني أنتوني إيدن ورئيس الوزراء وينستون تشرشل لتقييم لامبسون. وهكذا قيدت يد الملك فاروق مجددًا فيما يتعلق بإقالة النحاس. 

لكن في أواخر 1944، جاء التغيير. ففي أكتوبر حانت اللحظة التي طال انتظارها. كان لامبسون في عطلة في جنوب إفريقيا، فقام الملك فاروق بطرد النحاس وحكومته. وتم تشكيل حكومة جديدة من قبل زعيم الأقلية السعدية، أحمد ماهر باشا (شقيق علي ماهر باشا)، في خطوة ذكية من جانب القصر بالنظر إلى آراء ماهر المؤيدة لبريطانيا. وكان غياب السفير البريطاني في إجازة مجرد حجة شكلية لسكوت البريطانيين على إقالة النحاس كما يخلص فرامبتون. فقد رجحت كفة التيار داخل الحكومة البريطانية الذي بات يرى النحاس مسئولًا عن “تربية ثعبان الإخوان” خلال السنوات الأربع الماضية. 

الإخوان وتأسيس شبكة علاقات نفعية

يقول فرامبتون إن البرقيات بين الخارجية البريطانية والسفارة في القاهرة والوثائق تكشف أن سنوات الحرب العالمية الثانية كانت حاسمة فيما يتعلق بتأسيس تنظيم الإخوان. فقد جلبت الحرب أشكالًا للمواجهة ضد الإخوان تشمل الاعتقالات، وتعطيل الأنشطة والمراقبة. لكن مصاعب الإخوان لم تدم طويلًا، فقد أظهر البنا تكتيكًا سياسيًا منفعيًا بارعًا للغاية، وفتح قنوات مع القصر والوفد والسعديين والبريطانيين والألمان والإيطاليين، وحافظ على هامش مناورة أعطاه حماية مؤكدة تحت أعين البريطانيين والقصر والحكومة. وفي الوقت الذي تم فيه إقالة النحاس، كان تنظيم الإخوان المسلمين أقوى من أي وقت مضى باعتراف الدبلوماسيين والاستخبارات البريطانية. 

وأنهت بريطانيا الحرب العالمية الثانية وقد عقدت العزم على التمسك بوجودها في مصر. وفي أبريل 1945، ذهب وزير الخارجية البريطاني أنطوني إيدن إلى حد أن يوصي بأن تحتفظ بريطانيا بمسئولية الدفاع عن قناة السويس “إلى الأبد”.

وكانت وجهة النظر المشتركة بين رئاسة الأركان البريطانية والسفير في القاهرة السير مايلز لامبسون أن مصر تعتبر حجر الزاوية في النظام الإمبريالي البريطاني. ومع ذلك، كان المسئولون البريطانيون غافلين عن بيئة ما بعد الحرب والمتغيرت العديدة والتحديات الجديدة في الشرق الأوسط. فمن ناحية، كانت جاذبية القومية العربية في صعود، وحركات التحرر الوطني تنتشر في كل أنحاء الأمبراطورية. ومن ناحية أخرى، كان نفوذ لندن في طريقه للتراجع أمام أمريكا، القوة العالمية الجديدة القادمة عبر الأطلنطي. ومن ناحية ثالثة، كانت الأفكار الاشتراكية والنموذج السوفيتي جذابًا وسط الشباب والحركات التحررية، خاصة بسبب المشاكل الاجتماعية والاقتصادية العميقة في مصر. 

وأمام الخطر السوفيتي، قررت الولايات المتحدة تأجيل طموحاتها في المنطقة والتعاون مع بريطانيا لمنع تمدد الأفكار الشيوعية والاشتراكية. وتم تكريس التعاون الأنجلو أمريكي في الشرق الأوسط في “محادثات البنتاغون” في وقت لاحق من عام 1945. وكانت خلاصة الدبلوماسية الأمريكية أن المصالح البريطانية والأمريكية في المنطقة أصبحت الآن “موازية” بدلًا من “تنافسية”. لكن في الوقت نفسه أعرب أكثر من مسئول أمريكي في هذه الفترة عن أسفه لما اعتبر “قصورًا بريطانيًا لافتًا” في تعاملهم مع الشرق الأوسط، خاصة فيما يتعلق بالتحدي المتنامي من تيارات القومية العربية. 

السياسة البريطانية تتوافق مع تطلعات “البنا”

من ناحيتها، سعت بريطانيا لـ”تحديث” وجه الإمبراطورية البريطانية عن طريق غرس مفردات جديدة تحدثت عن “الشراكة” بدلًا من “الهيمنة”. وأعربت الحكومة البريطانية العمالية بزعامة كليمنت أتلي، التي تولت السلطة في يوليو 1945، عن رغبتها في العمل مع “الناس وليس الباشوات”.

لكن المفارقة أن بريطانيا بعد الحرب ورغم إعلانها عن رغبتها في العمل مع “الناس” وليس “الباشوات” قررت في نهاية المطاف تجميد دعمها لحزب الوفد والتعاون مع القصر والملك فاروق باعتباره “العنصر الرئيسي لاستمرار الاستقرار في مصر”. 

هذه التحركات البريطانية أخفقت في فهم التغييرات العميقة التي كانت تمر بها مصر والمنطقة العربية من الناحية الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والفكرية والسياسية. وهي التغييرات التي لاحظها مبكرًا المؤرخ البريطاني السير هاملتون جيب، الذي كان من بين أولئك الذين أدركوا ذلك في ذلك الوقت أن المشاكل التي تكتنف منطقة الشرق الأوسط، ومصر من ضمنها، غيرت نفوذ أركان المثلث التقليدي “القصر” و”الوفد” و”السفارة البريطانية”. 

ويقول هاملتون جيب إنه لم يكن من الممكن تقييد أو السيطرة على المطالب بتحقيق الأهداف المصرية الاجتماعية والقومية، فقد أصبحت الحياة السياسية أكثر اضطرابًا ولا يمكن التنبؤ بها. وسجل هاملتون جيب أنه للمرة الأولى في حياته سمع تعبيري “اضطرابات اجتماعية، و”الثورة” في الشرق الأوسط. أما البديل فلم يكن بالنسبة لتحليل هاملتون جيب سوى تحرك من الجيش المصري، أو تحرك من الإخوان المسلمين. كتب هاملتون جيب هذا وعينه على النفوذ المتنامي للإخوان المسلمين، لكن كلماته لم تصل إلى أسماع البريطانيين فقط، بل إلى أسماع الأمريكيين أيضًا.

ويقول مارتن فرامبتون في كتابه “الإخوان المسلمون والغرب” إن تنظيم الإخوان قد لفت انتباه الدبلوماسيين الأمريكيين لأول مرة خلال الحرب العالمية الثانية، وفي مطلع الأربعينيات تحديدًا. قبل ذلك، لم يعيروا اهتمامًا يذكر للتنظيم. ووصف المسئولون في المفوضية الأمريكية بالقاهرة الإخوان بأنهم متورطون في “أنشطة تخريبية”. وفي رأيهم، كان الإخوان “يميلون إلى المزايدة لاعطاء ولائهم لمن يدفع أكثر”. 

وأعرب مسئولون أمريكيون بالقاهرة عن اعتقادهم أن حكومة النحاس باشا هي السبب في مد نفوذ التنظيم في أعقاب اتفاقهم عام 1942 مع النحاس، والذي منحهم إعانات مالية وحصانة سياسية. ولهذا السبب، تعهد المسئولون الأمريكيون بمراقبة التنظيم عن كثب في المستقبل. ويقول فرامبتون إن واشنطن قررت فقط مراقبة أنشطة التنظيم، لكن ترك التعامل معه بعد انتهاء الحرب العالمية مسئولية بريطانيا، بوصف لندن من سيتحمل مسئولية حماية مصالح الغرب في مصر. 

وبالتالي، وجدت الحكومة البريطانية بعد الحرب نفسها أمام ذلك التحدى الجسيم. وأخذًا في الاعتبار تخبط لندن في السابق، كانت المهة لا شك معقدة. ولم يفت على التنظيم ومؤسسه حسن البنا أن البيئة المتغيرة بعد الحرب العالمية الثانية، يمكن أن تساعد التنظيم على النمو والانتشار.

 وكانت رؤية البنا أن العالم يقف عند مفترق طرق: طريق يتجه نحو الشيوعية وروسيا السوفيتية، والآخر نحو الديمقراطيات الغربية وبريطانيا وأمريكا. وكان خيار التنظيم مغازلة المعسكر الثاني، بدون قطع كل الخيوط مع المعسكر الأول. 

وفي هذا الجو المشحون وبناء على طلب البنا، بدأ التنظيم محاولة بناء مجموعات موالية له داخل قوات الأمن والجيش، وأنشأ قسمًا في التنظيم لهذا الغرض تحديدًا. أما على الصعيد السياسي، فقد فاز الحزب السعدي برئاسة رئيس الوزراء أحمد ماهر في انتخابات 1945. وفي أعقاب انتصاره، أعلن أحمد ماهر دخول مصر في الحرب على جانب الحلفاء. ولم يكن الأمر أكثر من مجرد لفتة رمزية بالنظر إلى أن الحرب كانت تقترب من نهايتها. وكان هدف ماهر هو ضمان مكان لمصر في مؤتمر السلام في سان فرانسيسكو، على أمل أن يستخدم قرار انضمام مصر إلى جانب الحلفاء في الحرب، للضغط على البريطانيين لمنح مصر استقلالها. لكن ماهر دفع ثمن هذه الخطوة بحياته. ففي طريقه للخروج من مجلس النواب حيث كشف عن القرار، قتل بالرصاص. وبرغم قصر فترة ماهر على رأس الحكومة، إلا أنه وضع مطالب مصر الوطنية على الأجندة السياسية الدولية. 

الإخوان يستخدمون كافة الأطراف

خلف ماهر، نائبه محمود فهمي النقراشي باشا، الذي كان مصممًا على المضي قدمًا في سياسات سلفه. ويقول فرامبتون إن الوثائق وبرقيات السفارة البريطانية تظهر منذ البداية، استياء السفارة من النقراشي باشا، الذي وصفه السفير لامبسون بأنه أشبه “مدير مدرسة صارم وضيق الصدر”. وكانت الدوائر البريطانية تنظر إلى رئيس الوزراء الجديد على أنه “قومي من النوع الأكثر تطرفًا”، و”يُخشى أنه لن يلعب الكرة بالطريقة التي يرغب بها البريطانيون”. 

وكان هذا التقييم صحيحًا، فقد تم إرسال وفد مصري إلى مؤتمر سان فرانسيسكو، وأعلنت الحكومة علنًا عن نيتها في تحقيق تطلعات مصر الوطنية، ودعا النقراشي إلى “انسحاب جميع القوات البريطانية” من مصر. ويوضح فرامبتون أنه وعلى هذه الخلفية، أعطى الإخوان في البداية دعمًا حذرًا لحكومة النقراشي، وأيدوا موقفه من القضية الوطنية. وأصر حسن البنا على أنه لا جدوى من المفاوضات مع البريطانيين، الذين، بحسب رأي غالبية المصريين، استخدموا المحادثات فقط كوسيلة للمراوغة.

لكن كان من الواضح أن زعيم الإخوان المسلمين، البراجماتي حتى النخاع، رأى أيضًا أن موقفه هذا يقربه من حكومة النقراشي ويفتح باب تحالف بين الوفد والإخوان. وبحسب الكثير من المؤرخين، فإن حكومة النقراشي بتقاربها مع الإخوان كانت ترغب في استغلال أعضاء جماعة الإخوان المسلمين من أجل مكافحة النفوذ المتزايد للجناح اليساري للوفد والشيوعيين في الحرم الجامعي. 

ولتحقيق هذه الغاية، يقول فرامبتون إن رئيس الوزراء النقراشي باشا توصل على ما يبدو إلى اتفاق مع البنا، مما وفر تمويلًا جديدًا للتنظيم، وهو ما مكن من بناء مقر جديد للإخوان. وكان الثمن صمت التنظيم عن ملاحقات الحكومة للجناح اليساري والشيوعيين في الحرم الجامعي، وكان أثر ذلك هو تقسيم الحركة الطلابية إلى تيارات متضاربة ومتباينة، وبهذه الطريقة اختار البنا مسار الواقعية السياسية مع السلطة مرة أخرى.

تفاهمات البنا والنقراشي لم تعنِ أن الحكومة صدقت كل وعود التنظيم أو تعهداته، وأمر النقراشي بالمراقبة المتزايدة للتنظيم حتى أثناء التقارب بينهما. ويشير فرامبتون إلى أنه خلال هذه الفترة كان البنا حريصًا على إرسال رسالة إلى الأمريكيين مفادها أن الإخوان “خير حليف لهم” في المنطقة لمحاربة الشيوعيين. 

وبتحالفه مع النقراشي وإعلانه المتواصل رفضه للمد الشيوعي، أثار البنا، كما يوضح فرامبتون، اهتمام بعض المسئولين داخل الولايات المتحدة. وبعد عدة أشهر، قامت وحدة الشرق الأدنى في الخارجية الأمريكية بتجميع تقرير طويل عن التنظيم. ويلاحظ التقرير استغلال التنظيم لبناء دولة يهودية على الأراضي الفلسطينية لمد النفوذ داخليًا وخارجيًا عبر التواصل مع المسئولين والسفارات الغربية.

من ناحيتها، لاحظت لندن أن التنظيم بات أشبه بحزب سياسي منظم منه إلى تنطيم دعوي. ويقول فرامبتون إنه في هذا السياق التقى في القاهرة عام 1946، السير والتر سمارت من السفارة البريطانية بحسن البنا، على ما يبدو ثاني لقاء من نوعه بين الاثنين. ويشير تقرير سمارت إلى أنه تحدث مع البنا في منزله قبل ثمانية عشر شهرًا. وفي تعبير عن ثقته المتنامية، أكد البنا أن “الأهداف الدينية في الإسلام هي بالضرورة.. سياسية”. 

وأهم من هذا أعاد البنا التأكيد على ما أسماه سمارت “أطروحته القديمة”، بأن “الإخوان المسلمين هم حلفاء بريطانيا الأكثر فائدة في مجتمع مهدد بالانحلال”. وشدد البنا على أن الإخوان المسلمين “هم أكبر حاجز ضد الشيوعية”، “وأكبر عامل عامل لتحقيق الاستقرار”.