صحافة

الإثنين - 14 يونيو 2021 - الساعة 05:18 م بتوقيت اليمن ،،،

مدى برس/ المركز المصري للفكر والدراسات:


وفرت إرهاصات الحرب الباردة في الخمسينيات فرصة ذهبية للإخوان المسلمين للعب على تناقضات المحاور المختلفة والاستفادة من تلك التناقضات. فلأول مرة يكون للطابع الديني للتنظيم ميزة واضحة لمواجهة التهديد الشيوعي المحتمل. هذا النهج الإخواني وجد بعض الداعمين وسط البريطانيين والأمريكيين وداخل القصر والحكومة. وبات البعض داخل الدوائر المصرية مقتنعين بهذا المنطق.

لكنّ تلك الحجة لم تقنع كل المسئولين البريطانيين، وقد عبر بعضهم عن شكوكه حيال النوايا الديمقراطية والقيمية لتنظيم الإخوان المسلمين.

وتكشف الوثائق البريطانية أن الدبلوماسي البارز السير “والتر سمارت” استمر في رؤية الإخوان باعتبارهم “جماعة ظلامية تكن الكراهية للأجانب”. وجادل “سمارت” بأن الإخوان أرادوا “تجنب الصدامات”، سواء مع السلطات المصرية أو مع البريطانيين، فقط من أجل تسهيل نموهم الخاص كتنظيم. وعلى هذا الأساس، خلص سمارت إلى رفض أي تقارب مع التنظيم. كما حذّر من خطر تشجيع الإخوان المسلمين “الذين قد يصبحون في يوم من الأيام أكثر قوة بما يمنع التعامل معهم بسهولة”. ومع الخلافات بين النقراشي والبريطانيين على خلفية الموقف من الإخوان والمطالب الوطنية المصرية، غادرت حكومة النقراشي وحلت محلها حكومي أحمد صدقي، وسرعان ما ظهرت معالم تواصل بينها وبين الإخوان مما أثار غضب دبلوماسيين في سفارة لندن.

وتعمّقت الشكوك عندما قام رئيس الوزراء الذي تم تنصيبه بنفسه بإجراء مكالمة تليفونية مجاملة لمقر جماعة الإخوان المسلمين. ولاحقًا، وافق صدقي على إطلاق سراح جميع الطلاب المسجونين من الإخوان. كما أزال الحظر المفروض على اجتماعات الإخوان.

وتجدّدت التقارير حول مساعدات مالية من الحكومة للتنظيم. وبعد ذلك بفترة قصيرة، تم منح الإخوان رخصة إصدار صحيفة يومية ورخصة توزيع، مما سمح بإطلاق الطبعة اليومية للإخوان المسلمين في ربيع 1946 تحت رئاسة تحرير القيادي المقرب من البنا “أحمد السكري”.

وكان تقييم السفارة البريطانية أن رئيس الوزراء والقصر مستعدان للعب دور “الأبطال القوميين” بالاعتماد على “أخطر عناصر” المجتمع المصري، وهم الإخوان. ومع جمود مفاوضات الاستقلال بين مصر وبريطانيا والأعمال الإجرامية للعصابات اليهودية في فلسطين، سادت خلال 1946 موجة من العنف والاضطرابات والاغتيالات وحرق دور السينما. وحُوصرت كل التنظيمات باستثناء الإخوان الذين اتهموا حزب الوفد باختراق الشيوعيين له، وذلك كي يعزز الإخوان اتصالاتهم مع حكومة صدقي مقابل تهميش الوفد.

وكانت طموحات التنظيم أن تطلب حكومة صدقي من الإخوان إرسال ممثلين عنهم كي يشاركوا مع وفد الحكومة في المفاوضات مع بريطانيا. لكن هذا لم يحدث. كما لم تؤدِّ المفاوضات إلى شيء. وتدهورت علاقة الإخوان مع حكومة صدقي بسبب اتفاق صديقي-بيفين الذي لم يحقق مطالب الحركة الوطنية المصرية. ومع فشل طرح قضية مصر أمام الأمم المتحدة بسبب تمتع بريطانيا بحق النقض، توافقت القوى الوطنية على العمل على إلغاء معاهدة 1936 وسط دعوات بمظاهرات عارمة.

وبحسب الوثائق البريطانية والأمريكية، فإنه على خلفية كل هذا عقد مسئول رفيع المستوى في السفارة الأمريكية، وهو فيليب أيرلندا، اجتماعًا مع حسن البنا لمناقشة الوضع السياسي، وهو أول اجتماع كبير بين دبلوماسي أمريكي وزعيم الإخوان المسلمين. 

وفي الملاحظات التي سجلها أيرلندا عن اللقاء يقدم صورة حية عن البنا كرجل مندفع وعصبي سريع الكلام وحاضر البديهة. ويلاحظ أيرلندا التباين بين تصريحات البنا السلمية، وبين ممارسات التنظيم على الأرض. ويقول الدبلوماسي الأمريكي إنه سأل البنا عن تلك التناقضات، فرد عليه البنا بابتسامة وغيّر الموضوع بسرعة.

وإجمالًا، لم تكن انطباعات أيرلندا إيجابية، مشيرًا بالذات إلى “سجل البنا الانتهازي”. لكن أكثر ما صدم أيرلندا تأكيد البنا له خلال اللقاء أنه قادر على وقف الاضطرابات في مصر عندما يريد. 

ووفقًا للدبلوماسي الأمريكي فقد أمضى البنا الكثير من هذا الاجتماع منتقدًا خصومه الداخليين، ساعيًا إلى كسب تأييد الولايات المتحدة. فقد أدان الوفد، على سبيل المثال، باعتباره يضم “شبابًا خفاف الدماغ مأجورين من السوفيت”.

علاوةً على ذلك، وفي إشارة واضحة إلى المصالح الأمريكية، أشار البنا للإسلام باعتباره “الحاجز العظيم” للشيوعية.

وعلى هذا الأساس، ناشد البنا التحالف مع الولايات المتحدة، واقترح أن “أمريكا والإخوان يجب أن يصبحوا حلفاء في محاربة الشيوعية”. 

ولتأكيد دورهم في التصدي للمد اليساري في مصر، ساعد الإخوان في مايو 1946 على إنهاء إضراب عمال النسيج في ضاحية شبرا في القاهرة احتجاجًا على الظروف المعيشية وشروط العمل. وخلال هذه الفترة اشتبكوا مرارًا مع اليساريين في شوارع مصر بدعم من البريطانيين والقصر والحكومة.

وخلال هذه الفترة أيضًا، بدأ التنظيم يتباهي علانية بقوته العسكرية من أجل إقناع الأمريكيين بأنه أفضل حليف يمكن التحالف معه لضرب الحركة اليسارية في مصر. وشدد البنا على حجم وإمكانات الإخوان، مدعيًا أن هناك حوالي 600 ألف عضو لجماعة الإخوان المسلمين في مصر، و300 ألف آخرين في الخارج. كما أشار إلى “مجموعة عمل” أساسية تتألف مما بين 25 ألفًا و30 ألفًا يتلقون التدريب العسكري “الروتيني”.

محاولات البنا التأكيد على أن الإخوان يمكن أن يشكلوا رصيدًا حقيقيًا للأمريكيين في مصر، انتكست مع موجات من المواجهات والعنف واغتيال شخصيات بارزة على رأسها القاضي أحمد الخازندار، ومحاولة تفجير منزل النحاس باشا، واغتيال قائد شرطة القاهرة سالم ذكي باشا.

وفي مايو 1948، تم فرض الأحكام العرفية، وتعيين النقراشي حاكمًا عسكريًا، ووضع قيود جديدة على الحريات المدنية. وتراجعت العلاقات بين الملك والإخوان.

ووصف دبلوماسي في السفارة الأمريكية الإخوان آنذاك بـ”فرانكشتاين” الذي رعاه الملك لضرب الوفد. وفي 8 ديسمبر 1948، أصدر النقراشي إعلانًا عسكريًا يأمر بحل الإخوان. وفرضت الإقامة الجبرية على حسن البنا. 

لكن البنا ظل متحديًا للقرار. وفي مقابلة مع “روز اليوسف”، قال إن “سحب شهادة ميلاد الرجل لا يفقده وجوده، على الرغم من أنه يجعله يفقد شخصيته من الناحية القانونية”. 

ثم كانت الجريمة التي غيرت كل شيء وهي قتل رئيس الوزراء النقراشي باشا على يد عضو في الإخوان، وتفجير مكتب المدعي العام الذي كان يقوم بالتحقيق في اغتيال النقراشي. 

فبعد ذلك بقليل وفي فبراير 1949، قُتل حسن البنا نفسه. ومال البريطانيون إلى فرضية أن القصر وراء الاغتيال.

وباغتيال رئيس الوزراء النقراشي باشا على يد عضو بالإخوان، واغتيال البنا بعد ذلك، أُغلقت صفحة من تاريخ ملتبس حافل بالتناقضات بين التنظيم في سنوات تكوينه الأولى والسلطات المصرية والبريطانيين. هذه الصفحة كانت الأساس الذي ستُبنى عليه مستقبلًا ملامح العلاقات بين تنظيم الإخوان والدولة المصرية من ناحية، وتنظيم الإخوان والغرب من ناحية ثانية خلال عقود الخمسينيات وحتى مطلع الألفية الجديدة. 

وفي تقييم كاشف كتبه جيمس هيورث-دون، المستشرق والباحث في السفارة البريطانية في القاهرة خلال تلك السنوات، يقول إن الصدام بين الإخوان والطبقات الحاكمة في الدولة المصرية كان أمرًا حتميًا. فالخلافات لم تكن سياسية، لكن أيديولوجية وفكرية بالأساس. لكنه حذر من أن “أفكار حسن البنا، يمكن أن تكون أطول من عمر صاحبها”. 

ويوضح فرامبتون أن آراء مماثلة كانت سائدة في وزارة الخارجية الأمريكية. فقد استنتجت إحدى الأوراق، غير المؤرخة والمجهولة الاسم، أن الإخوان لن يختفوا و”سيعملون تحت الأرض إذا لزم الأمر” وسيلجئون للعنف، وهو ما أثبتته تطورات الأحداث. 

لكن ما تغير بشكل جذري خلال العقود اللاحقة هو أن الغرب بدأ منذ السبعينيات التعاطي بطريقة مؤسسية أكبر مع تنظيمات الإخوان المسلمين في المنطقة. فالشكوك الغربية العميقة في التنظيم ونواياه، والتي كانت ملمحًا أساسيًا خلال الفترة التأسيسية للعلاقات في الثلاثينيات والأربعينيات والخمسينيات، تراجعت وحل محلها المراهنة والمقامرة على أن تنظيمات الإخوان في المنطقة يمكن أن تتعاون مع الغرب في أجندة علاقات ومصالح مشتركة، خاصة في التصدي للمد السوفيتي في منطقة الشرق الأوسط الكبير، من المغرب وحتى أفغانستان.

وتكشف الوثائق الغربية أنه مع تراجع القومية العربية بعد عام 1967، أصبح الدبلوماسيون الغربيون مقتنعين بأن وصول الإخوان المسلمين في نهاية المطاف إلى السلطة “أمر لا مفرّ منه”، وبالتالي فإن الانخراط معهم ضروري. ومع أن أمريكا وبريطانيا وغيرها من الدول الغربية ربطتهم بحكومات المنطقة علاقات قوية، إلا أن لندن وواشنطن كان لديهما علاقات تواصل مع الإخوان منذ السبعينيات. ويعود جانب من هذا إلى تزايد وجود تنظيمات الإخوان المسلمين في الدول الغربية. 

ففي التسعينيات والعقد الأول من القرن الحادي والعشرين، أنشأت مجموعات ونشطاء ينتمون إلى جماعة الإخوان العديد من الهيئات في الدول الغربية، مثل مجلس العلاقات الإسلامية-الأمريكية في الولايات المتحدة، والرابطة الإسلامية البريطانية. 

والمفارقة أنه بعد 11 سبتمبر 2001، اكتسبت هذه الجماعات وزنًا سياسيًا أكبر. فتنظيمات الإخوان المسلمين في المنطقة اتّبعوا استراتيجية جديدة للتواصل مع الغرب مفادها أنهم يمثلون “الإسلام الوسطي المعتدل”، ويمكن أن يلعبوا دورًا في تهميش الجماعات الأكثر تطرفًا وغلوًا مثل “السلفية الجهادية” أو تنظيمات مثل “القاعدة”. 

ووجدت هذه الحجة آذانًا صاغية لدى الكثير من المسئولين في الدوائر الغربية. ولا عجب أن تصل الروابط بين تنظيم الإخوان وبين لندن وواشنطن لمستويات أفضل كثيرًا بعد 11 سبتمبر 2001. فقد أقام البريطانيون روابط أوثق مع الإخوان المسلمين، معتقدين أنهم شركاء ضد الجماعات الإسلامية المتطرفة. وخلال الولاية الثانية لإدارة جورج بوش الابن، أعاد الأمريكيون إطلاق حوارهم مع جماعة الإخوان المسلمين والذي كانوا أغلقوه بعد 11 سبتمبر. وتواصلت إدارة الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما مع جماعة الإخوان المسلمين بطريقة أكثر منهجية، وبدأت “برنامج مكافحة التطرف” الذي تعاون مع مجموعات قريبة من جماعة الإخوان المسلمين.

ومع ذلك، فإن فرامبتون في كتابه يوضح عبر مئات الوثائق الجديدة أن المقاربات البريطانية والأمريكية في التعامل مع جماعة الإخوان المسلمين كانت بعيدة كل البعد عن الاتساق، وحكمها الكثير من الأحكام العامة والصور النمطية والكليشيهات التي استخدمت منذ الثلاثينيات والتي ألقت بظلالها على تقييمات الدبلوماسيين الغربيين حتى يومنا هذا في علاقاتهم مع تنظيم الإخوان المسلمين.

ومن ضمن تلك الكليشيهات، البحث الدائم عن “المعتدلين”، حتى في حالة عدم وجود أي منهم في تنظيمات الإخوان في المنطقة. هناك أيضًا في الدوائر الغربية صورة نمطية لرؤية التيار مقسمًا بين “معتدلين” و”متطرفين”. ويحذر فرامبتون من أن عناصر الإخوان المسلمين على دراية بهذه الكليشيهات الغربية ومستعدون لاستغلالها. كما يفند فرامبتون بجدارة الأرضية التي وقف عليها الغرب طوال نحو القرن في التعامل مع تنظيمات الإخوان، وهي أن الانفتاح عليها سيؤدي في نهاية المطاف إلى تحويل تنظيمات الإخوان لتكون أكثر اعتدالًا وتقبلًا للديمقراطية. يقول فرامبتون إن الأمور هي العكس تمامًا: “في الواقع، يمكن أن يكون الأكثر تزمتًا أيديولوجيًا وسطهم، هو الأكثر براجماتية وعلى استعداد لفعل كل ما يتطلبه الأمر لتعزيز قضيتهم”. ويوضح أنه على رغم عقود العلاقات والانفتاح بين الغرب والإخوان المسلمين، إلا أن التنظيم لا يزال يستخدم اللغة نفسها التي استخدمها حسن البنا قبل نحو 90 عامًا فيما يتعلق برؤية الغرب، والعداء للآخر، وحقوق الأقليات، والديمقراطية، والحكم المدني، مما يهدم كل الأسس التي تعلل بها الغرب في علاقاته الخطيرة والمضطربة مع تنظيم الإخوان، وهو أن تلك العلاقات ستؤدي إلى “دمقرطة الإخوان”، لأن واقع الحال أن العلاقات الطويلة مع الغرب فشلت في أن يكون لها أي تأثير فكري-أيديولوجي-سياسي إصلاحي على الإخوان.