كتابات

الثلاثاء - 15 يونيو 2021 - الساعة 08:53 م بتوقيت اليمن ،،،

مدى الثقاقي/ عدلي صادق*


كان الأديب المصري توفيق الحكيم يوصف بشدة البُخل على الرغم من دخله الجيد. وقد روى بعض الذين عايشوه طرائف عنه في تعامله مع المال الذي كان عنده شقيق الروح. لكن الذين كتبوا عن بُخله اختلفوا في التعليل، فمنهم من أنكر الصفة مستنداً إلى لقطات محددة استقاها من رفقته لتوفيق الحكيم، ومن بين هؤلاء الروائي نجيب محفوظ الذي رأى أن البخل عند صاحبه محض فلسفة. لكن رواية محمد حسنين هيكل، الذي كان رئيساً لتحرير “الأهرام” والحكيم يكتب فيها، بدت حاسمة لأن خلافاً حاداً نشأ بين الحكيم وابنه الوحيد إسماعيل، اقتضى أن يتدخل هيكل للمصالحة. وكان سبب الخلاف أن الابن اقترض من الأب مبلغاً من المال لكي يؤسس فرقة موسيقية. ولمّا تأسست الفرقة وكانت تعزف في الحفلات والأعراس، على الضد من رغبة الحكيم وتقاليده؛ أصبح الأب يريد رد المبلغ، بينما الابن يمتنع، ربما بسبب إسرافه على نفسه ومعاقرة الخمر بصورة أودت بحياته مبكراً، بعد إصابته بتليف الكبد. ولم يكن هناك وسيلة لإقناع الحكيم بالمصالحة سوى عرض مالي غريب ومثير، وهو أن يحضر الأب عرضاً موسيقياً لابنه، ثم يكتب عنه مقالا وتكون المكافأة خمسة آلاف جنيه، وهو مبلغ كبير في العام 1969. ووافق الحكيم على العرض إذ وجد فيه تعويضاً عن تعثر السداد، رغم شرحه لصعوبة المهمة. كان الحكيم ينام مبكراً، وقبل أن يبدأ ابنه العزف. سأل الحكيم هيكل كيف تدفع مبلغاً بهذا الحجم لمقال يكتبه عن أمر سخيف، أجابه هيكل بأنه تاجر ويعرف قيمة السلعة التي يشتريها.

كان أحد المعجبين بتوفيق الحكيم ويُدعى إبراهيم عبدالعزيز قد أصدر كتاباً طريفاً عن الحياة الشخصية للحكيم، وأورد الكثير من اللقطات، وكتب نجيب محفوظ مقدمة الكتاب مخففاً ما استطاع من تهمة البخل الشديد، بالتركيز على علاقة المال بالزمن في فلسفة الحكيم. وفي الحقيقة هناك فعلاً علاقة بين الإنفاق والزمن، لكن اختلال العلاقة بين العنصرين مُبررة في الأقوال الشائعة والمتداولة على ألسنة المصريين ومنها “اصرف ما في الجيب، يأتيك ما الغيب”، وقد شرح أحد الشيوخ الأزهريين مغزى هذه المقولة نافياً أنها دعوة للتبذير، مستشهداً بقول الله تعالى “وفي السماء رزقكم وما تُوعدون”، وقول الرسول محمد عليه السلام “لو أنكم توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدوا خِماصاً وتروحُ بِطاناً”. لكن الحكيم لم يكن يرى الإنسان كالطير، ولا يرى حاجاته تماثل حاجات الطير، ولا حاجات الأوطان كحاجات الطيور!

كانت زينب ابنة توفيق الحكيم قارئة لما يكتب أبوها ولما يكتب غيره من المتفلسفين الأوروبيين، واتهمته مرة بأنه ينقل بعض أفكار الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر، وقد نفى ذلك وقال إنه الأسبق. ولكي تستفز طبائعه كبخيل، قالت له أثناء تناول طبق من “البامية” أن الكيلو الواحد من هذا النبات في بداية موسمه يُباع بسبعة جنيهات. عندئذٍ وقفت اللقمة في حلقه، وبدأ مناقشة اقتصادية مع ابنته “إن هذه الجنيهات السبعة تفتح لصاحبها بيتاً وتكفل معيشة أسرة شهراً”. ومضى يقول سائلاً “ما الذي أوصلنا إلى هذا الوضع الذي لا ضابط ولا رابط فيه؟”. وأجاب بنفسه “إنه سوء التخطيط في التعليم وتوزيع الخريجين. فمع كثرتهم لا يجدون لهم مكاتب، وهم لا يُنتجون، لأن عمل الواحد منهم يؤديه عشرة، بينما يتعين على تسعة منهم أن ينطلقوا إلى الصحراء لاستصلاحها”.

لقد كانت للبخيل فلسفة ربما يحتاج الكريم بعضاً منها.

كاتب وسياسي فلسطيني/ صحيفة العرب اللندنية