كتابات

الأربعاء - 16 يونيو 2021 - الساعة 08:57 م بتوقيت اليمن ،،،

مدى الثقافي/ سوسن الأبطح *


الرواية الأخيرة للأديب الفرنسي الشهير غيوم ميسو «الحياة رواية»، أبصرت النور قبل أيام باللغة العربية، وصدرت عن دار «هاشيت - أنطوان» في بيروت. وكانت الدار نفسها قد ترجمت العام الماضي رواية ميسو «حياة الكاتب السرية» بعد أشهر من صدورها باللغة الفرنسية، وسبقتها «الصبية والليل». ويعود الاهتمام من قبل دور النشر في العالم، بجديد ميسو، إلى الشعبية الكبيرة التي يحصدها بين القراء الفرنسيين. فهو يعدّ الروائي الفرنكوفوني الأول، والأكثر مبيعاً منذ 10 سنوات. وقد حقق استمرارية في التحليق، نادراً ما يحصدها كاتب بالفرنسية. وصنف ميسو في فرنسا على أنه الأكثر قراءة خلال عام 2020، وطوال فترات الحجر؛ إذ باع نحو مليون ونصف المليون نسخة. وهو مترجم إلى أكثر من 44 لغة، ويقدر مبيعه العالمي بـ35 مليون نسخة في مختلف اللغات.

ميسو لا يزال في الخامسة والأربعين من عمره، يصدر كل سنة كتاباً، منذ نحو 20 سنة. «الحياة رواية»، هو مؤلفه رقم 18، فيما يستعد لإصدار روايته التاسعة عشرة في سبتمبر (أيلول) المقبل بالتزامن مع موسم الدخول الأدبي، كما أعلنت الدار العريقة التي تتولى طباعة كتبه «كالمان ليفي».

يبدو أن هذه الشهرة بدأت تطحن ميسو، فهو لا يجد الوقت لالتقاط أنفاسه. يحتاج أشهراً عدة في كل مرة ليبلور فكرته ويضع خطتها، ومن ثم يعكف على الكتابة. وعلى عكس ما يتخيل القراء، يقول: «أنا لست آلة تكتب. وإنما أعمل يومياً، من التاسعة صباحاً إلى السابعة مساء، كأي صاحب مهنة يتوجه إلى عمله مع إشراقة الضوء، كي أستطيع أن أنجز رواية كل سنة». هذا ربما ما يفسر اختياره موضوعَي روايتيه الأخيرتين حول الكتّاب وحياتهم. وهو موضوع روائي أثير لديه.

إذا كانت رواية «حياة الكاتب السرية» عن أديب قرر أن يعتزل وهو في عزّ شهرته ومجده الأدبي، وينسحب إلى مكان بعيد، ويرفض التحدث إلى أي أحد، ومع ذلك يبقى هناك من يطارده من الفضوليين، فإن روايته الجديدة، بطلاها الرئيسيان أديبان؛ رجل وامرأة، ومن خلالهما نكتشف الكثير حول ما يخبئه ميسو، وما يفكر به بصفته أديباً لمهنته خصوصيتها، وأسرارها، وطقوسها، التي يتمنى كثيرون معرفتها.

«الحياة رواية» هي عن الروائية الأميركية «فلورا كونواي»، التي تعيش في حي بروكلين النيويوركي. وذات يوم من شهر أبريل (نيسان) كانت تلعب مع ابنتها، ذات السنوات الثلاث، لعبة «الغميضة»، وحين فتحت عينيها، وأخذت تبحث عن صغيرتها لم تجدها، ورغم كل نداءاتها لها بأن اللعبة قد انتهت وعليها أن تخرج من مخبئها، فإن الطفلة لم تظهر. تلك كانت لحظات صاعقة. النوافذ في الشقة هي في الأساس محكمة الإغلاق ولا تفتح، والمفتاح لا يزال موجوداً في القفل العلوي من الباب الرئيسي، ولا يستطيع أصلاً طفل الوصول إليه، ووجوده دلالة على أن أحداً لم يفتح الباب من الداخل أو الخارج. لم تترك فلورا مكاناً في البيت إلا بحثت فيه؛ الشيء الوحيد الذي أكد مخاوفها هو عثورها على الفردة اليسرى من الحذاء المنزلي الذي كانت تلبسه الطفلة «كاري»، في الممر، فيما لم تعثر على الفردة الأخرى. الشرطة أيضاً لم تتمكن من أن تلتقط أي أثر لـ«كاري»، ولا أن تمسك بطرف أي خيط. فالكاميرات لم تسجل حركة مريبة، أو أثراً لداخل أو خارج من هذا المبنى القديم الذي تقع فيه شقة «فلورا».

تلجأ «فلورا» لكاتب آخر، رومان أوزورسكي، الموجود في باريس لحل لغز اختفاء طفلتها. لكنه هو الآخر، في هذا الوقت بالذات له مشكلاته الخاصة؛ إذ يسعى جاهداً للاحتفاظ بحضانة ابنه الوحيد، بعد انفصاله عن زوجته. يكتشف أن سعادته في العمق ليست في الكتابة، كما كان يعتقد، وإنما في علاقته الحميمة بابنه الذي سينتقل به إلى أميركا. هذا الجمع بين أديبين، مناسبة لصاحب الرواية، ليكتب عن حياة الأدباء، وما يشعرون به؛ متاعبهم، هواجسهم، ومشكلاتهم. ويكرر ميسو في مقابلاته الأخيرة أن هذه الرواية كانت وسيلته ليجيب من خلالها عن أسئلة القراء التي ترد إليه باستمرار، حول كيف يكتب؟ بماذا يشعر؟ كيف يحضّر لموضوعاته؟ ما مصادر الوحي في حياته؟ وأسئلة أخرى كثيرة. والحقيقة أن الروائيين في القصة، من خلال مهارتهما العملية يكتشفان أن بمقدورهما فك لغز الاختفاء الغامض للطفلة «كاري».

إضافة إلى الأديب «رومان»، وابنه الذي له دوره كذلك، شخصية أخرى في الرواية هي «فونتين» ناشرة «فلورا» الفرنسية، التي تحوم حولها الشكوك، بسبب بعض تصرفات مريبة، تجعلها في مدار الاتهام.

وميسو المتتلمذ على كتابات أغاثا كريستي، وهي من بين الكتّاب الذين قرأهم بشغف كبير في طفولته، لا ينقصه الحس البوليسي في رواياته، ويعرف كيف يؤجج الإثارة. فقد ربط بين قلم بدأت تكتب به «فلورا»، ورؤيتها أحلاماً تزورها في نومها، ليتبين في النهاية، وبعد تحليل مخبري، أن القلم ليس هو مصدر ما تراه، وإنما الحبر الذي ظهر في المختبر أنه يحوي الماء والألوان ودم طفلتها كدلالة أولى على موتها.

على عكس روايات ميسو السابقة، التي كانت تزدرد من القراء ازدراداً، اشتكى قراؤه هذه المرة من أنه بالغ في اللعب، وتطرف في محاولة التجديد، وأنه وهو يحاول أن يجعلهم يعيشون بين قارتين، وهو يتنقل بين باريس ونيويورك، وبين الواقع والخيال، بدا لهم أنهم يفقدون الخيط، ولا يعرفون من الذي يروي، وما الذي يحدث. لكن من يتحلى بالصبر ويصل إلى الصفحات الأخيرة، يكتشف ما يشبه الضوء الذي يأتيه ساطعاً في النهاية.

فالرواية تشبه في تركيبتها مسرحية من ثلاثة فصول؛ كل فصل منها يكاد يجعلك تتساءل عن الذي قبله. وميسو، في الحقيقة، يطلق العنان أيضاً لنوع من التناص، حين يلحظ القارئ أن شيئاً من رواية سابقة له هي «فتاة من ورق» تظهر أمامه وهو يقلب الصفحات، أو أن شيئاً من رواية «حياة الكاتب السرية» يلوح له في هذه القصة الجديدة. ولا يتوانى الكاتب عن ضخ الاستشهاد مستعيناً بعبارات لكتاب وأدباء معروفين، وهو ما أخذه عليه بعض القراء أيضاً.

أستاذ الاقتصاد الذي حقق حلمه بأن يصبح روائياً يقص على الناس الحكايات، لم يعد يخفي في روايتيه الأخيرتين، من خلال أبطاله ومقابلاته، ضيقه من مطحنة التسويق. بطلة الرواية الجديدة الروائية «فلورا»، تكره الصحافيين، ثم إنها تكره القراء أيضاً، لأنهم لا يجيدون اختيار الكتب، وتعبر عن كرهها الناشرين، وتجد أن عالم النشر مليء بالحسد. هل هي أفكار ميسو أنطقها بطلته، أم مجرد لعبة روائية ذهب بها إلى النهاية؟

رغم الانتقادات، فإن هذه الرواية أبقت ميسو الأول على لائحة المبيع، وينتظر عشاقه بفارغ الصبر روايته المقبلة، ودور النشر في العالم تترقب، لتترجم ما يكتبه الشاب الموهوب وهو يخلط؛ بين الخيال والواقع، الغرائبية والبوليسية، العقلانية مع رشّة من السوريالية، وينطلق من ملاحظات وتجاريب صغيرة في حياته الشخصية، ليبني عليها حكايات لا تزال تفتن القراء.

* المصدر: الشرق الاوسط