مدى الثقافي/ علي احمد عبده قاسم*:
دائما مايتردد علينا المصطلح النقدي "التكثيف" فما هو مفهومه وميزاته؟
وقبل الدخول لتناول هذه الخاصية من المهم أن تعرج على دلالات جذره اللغوي "كثف" فله عدة مترادفات، منها:
- كثف العجين "جمعه ولبده".
- كثف اللبن "أصبح رائبا".
- كثف البخار "تحول إلى سائل".
- كثف التيار الكهربائي "زادت سعته وطاقته".
- كثفت الأشجار "التفت أغصانها في بعضها".
- كثف الشعر "تجعد وتراكم بعضه فوق بعض".
ومن المترادفات يمكن أخذ الدلالات التالية:
- تحول القليل إلى كثير فمن قليل من الطحين أو كثيره تتحول ذراته إلى عجين وربما بالتخمير يزداد الكمية بلا نهاية.
ومن الشجرة الواحدة تلتف الأغصان وقد لا تنفذ الشمس من كثافة تلك الأوراق والأغصان وأصلها شجرة واحدة.
وبخار الماء الرذاذ البسيط يتحول سائلا وأمطارا لا يحصي
عدد قطراتها وماذا أنببت ويأتي ذلك التكثيف من أصل واحد. الشجرة وغيرها.
فهل التكثيف التعبير بأقل الكلمات عن كثير من المعاني؟ هذا مفهوم قد يقترب من المعنى لكنه يأتي أقرب للمفهوم البلاغي "الحذف".
والحذف جزء من التكثيف، فحين ترى أغصان الشجرة الملتفة فقط فهناك أشياء غائبة ومحذوفة هي الجذور والأمطار والعمر وخصوبة الأرض وغيرها وإنما الأغصان معادل لدلالات الكلمة.
فالتكثيف البعد عن الحشو والإسهاب والتطويل و"جمع الأشياء المشابهة والمتناقضة بحيث يكون برقة خاطفة" بلا زيادة أو نقصان في النص المكتوب.
بحيث تأتي الكلمة الواحدة المستخدمة في النص بدلالات بلا حصر بل يتعدد فيها التأويل والتفسير في الرؤى النقدية المختلفة في هذا الزمن أو قادم الأزمان وهل نركز استخدام العبارة والكلمة في النص فقط؟ قد نركز على ذلك مع التركيز على بنية النص برمته ليكون مترابطا متشابها متناقضا جاذبا بعيدا عن الاستطراد والتكرار والحشو والتوصيف فذلك قد يخص القصة القصيرة وليس الققج والتكثيف مرتبط بالاختزال وهو الاقتطاع من النص سواء من البنية اللغوية التركيبة أو الحذف والإيجاز والإضمار وتوظيف الرمز والحذف من النص ومن الزمان وغيرها من العناصر بحيث يكون بناء كبيرا متشعبا في لقطة صغيرة الحجم واسعة الدلالات وآفاق التأويل.
وقد قيل إن عبقرية المتنبي تأتي من عمق دلالات عباراته وتعدد تأويل صوره ومعانيه في كل زمان ومكان وكان يقصد ذلك العمق ويتعمد التعدد لأنه متمكن من أدواته الشعرية واللغوية ويمتلكها باقتدار فقال:
"أنام ملء جفوني عن شواردها
ويسهر الخلق جراها ويختصم"
ونحن لسنا في مضمار الشعر وتفسيره بل نحن في مجال القصة القصيرة جدا والنص القصير جدا عموما
فمن النصوص المكثفة في الققج نص القاص المغربي/ عبد الرحيم التدلاوي.
"تناثر
نظرت في المرآة
ماهذا؟
ضربتها أرضا..
تناثرت أقنعة".
الملاحظ أن النص يتكون من أربع جمل: "نظرت، ما هذا، ضربتها، تناثرت".
بسرعة خاطفة سريعة من خلال استخدام الجمل القصيرة
- اختار القاص ضمير "الأنا" بتعمد لأن الذات معادل رمزي للإنسان وهنا حذف الكثير من الصور والمظاهر الأخلاقية الحياتية المغيبة أو التي ضيعها الإنسان ويراها دائما ماثلة أما عينيه.
- استخدم القاص الاستفهام زيادة في الجذب والحذف ولم يقل للمتلقي ما الذي رآه من بشاعة بل استنكر واستغرب واندهش وشاركه القارئ تلك البشاعة وذلك الشعور من خلال الرؤية والتحطيم للمرآة.
- وظف القاص الرمز سواء من خلال توظيف ضمير "الأنا" بوصفه معادلا رمزيا لكل إنسان.
ووظف "المرآة" رمزا للحقيقة فهي وسيلة لنقل وتصوير الحقيقة كما هي خاصة والإنسان يستخدم المرآة المستوية التي تعكس الصورة الحقيقية و"والمرآة معادل رمزي" للحياة ولقيمها المغيبة أو المستلبة وصورة للمظاهر البشعة.
لم يرفض القاص الحقيقة ولا قيم الحياة. حين ضرب بالمرآة أرضا بل يرغب بتشظي تلك الصور البشعة لتصاغ الحياة بقيم جميلة وإنسانية أكثر ملاءمة للحياة وللإنسان.
تميز النص:
- الجمل قصيرة سريعة جاذبة
- الحذف والإضمار والرمزية
- نهاية وقفلة مدهشة
- تلاحقت الجمل الفعلية متتابعة مفصولة بجملة اسمية زيادة في الجذب
- يخلو النص من الحشو والتكرار والتوصيف والإطالة وهذا لتعطي كل جملة فضاءات من التأويل لا تنتهي ليعطي تكثيفا وضغطا للنص ودلالات الجمل.
وساعطي مثالا آخر للتكثيف في ومضة "قارورة" للقاص الزميل لقمان محمد.
"قارورة
كسرها؛ جرحته."
يعد الرمز وسيلة من وسائل التكثيف خاصة وهو يتيح للمبدع أن يقول حقيقة أو يرسم قضية بعمق ودلالات لاتنتهي.
وبالنظر في النص "قارورة" جاء العنوان رمزا للمرأة وهو يتعالق مع حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: "رفقا بالقوارير".
وهذا الرمز شفيف ويماثل المرأة رقة ونقاء وصفاء وروحا طاهرة وأيضا القارورة بوصفها زجاجا قابلة للكسر وسرعان ما يعلق بها أي وسخ فالدلالات لا تنتهي.
- جاء طرف الومضة الأول "كسرها" وهذا تلميح إما الكسر بالطلاق أو بالخديعة وكم من المحذوف من الأحداث في النص عبر علاقة المرأة بالرجل وعلاقات الرجال بالنساء في مسيرة الحياة كلها.
وجاء المباغتة ب"جرحته" إما لمقامها في نفسه أو أن شظاياها انتقمت منه.
وبالتأمل في شاعرية النص من جلال التصوير البديع والعميق سواء من العنوان أو بطرفي الومضة أفضى لتكثيف واختزال يتيح التأويل والتفسير بلا حدود لنص مكون من جملتين.
*ناقد وكاتب - اليمن إب