عربي ودولي

الأحد - 05 سبتمبر 2021 - الساعة 10:26 م بتوقيت اليمن ،،،

مدى برس/ العرب :

بعد فترة من الصمت حول أزمة سد النهضة وتطوراته وإشكالياته الفنية والسياسية، عاد الملف إلى الواجهة من ناحية أمنية هذه المرة حيث اتهمت الحكومة الإثيوبية الجمعة جبهة تحرير تيغراي بشن هجوم عسكري قادم من الحدود السودانية على منطقة بني شنقول التي يقع فيها السد بغرض استهدافه وتعطيل العمل فيه.

وحمّل بيان رسمي للحكومة الخرطوم مسؤولية مباشرة عن هذا التطور العسكري المثير، وهو ما ردّ عليه السودان بعد ساعات قليلة بالنفي حاثا على عدم إقحامه في الصراعات الداخلية لإثيوبيا، والتلميح بأن أديس أبابا تريد وضع إخفاقاتها على عاتق الآخرين، في إشارة تؤكد على استمرار الاستفادة السياسية من السد أملا في تفكيك الأزمات التي تحيط بالدولة الإثيوبية.

لجأت الحكومة إلى العزف كثيرا على وتر اتهام القاهرة باستهداف السد عسكريا وبالغت في العزف على هذه النغمة، ووجدت الفترة الماضية إشارات سلبية حوتها وسائل الإعلام المصرية ما يدعم هذه الرؤية والتي استثمرت فيها إلى أبعد مدى ونجحت في توفير حشد شعبي خلفها يدعم تصوراتها ويؤيد تصرفاتها، وتحصل على ما يشبه الفيتو الدولي برفض لجوء أيّ طرف للتعامل بخشونة مع المشروع.

بعد أن هدأت حدة الأزمة مع مصر بكل تفاعلاتها الإقليمية والدولية ولم تعد القاهرة تركز إعلاميا أو سياسيا على أزمة السد عندما تأكدت من عدم وقوع ضرر مائي عليها بسبب الملء الثاني، استشعرت الحكومة أن هذه الورقة بدأت تفقد مفعولها الداخلي، في وقت تواجه فيه تصعيدا عسكريا واسعا من قبل جبهة تحرير تيغراي.

عادت الحكومة الإثيوبية أخيرا إلى إحياء التوظيف السياسي للسد من زاوية تيغراي والسودان معا هذه المرة، وبعيدا عن دقة الاتهامات الموجهة إلى الطرفين من عدمها وحقيقة التهديد الذي تمثله تيغراي على المشروع والمنطقة المحيطة به، فإن الحديث عن استهدافه عسكريا يعيد إنتاج أزمة السد كأداة في يد أديس أبابا تمكنها من الحصول على تعاطف إقليمي ودولي ضد كل من جبهة تيغراي والخرطوم، ومن قبلهما القاهرة.

تعرضت الحكومة الإثيوبية لصعوبات عسكرية عديدة في مواجهة الجبهة ولم تستطع صد الكثير من هجماتها على محاور مختلفة منذ أن استردت قوات تيغراي سيطرتها على العاصمة ميكيلي وطردت القوات الإثيوبية وحليفتها الإريترية من الإقليم، وشرعت في الزحف نحو مناطق أخرى خارجه لتقطيع أوصال الدولة، ما وضع الحكومة ورئيسا آبي أحمد في موقف حرج، فلا هو قادر على الصمود أمام المواجهة الممتدة، ولا هو قادر على جمع الشعوب الإثيوبية حوله في هذه المعركة المصيرية.

ازداد الأمر صعوبة مع تصاعد نداءات المجتمع الدولي ضد الحكومة واتهامها بارتكاب خروقات إنسانية في إقليم تيغراي، فيما يوحي بأن الجبهة حققت مكاسب معنوية تعزز حضورها الداخلي الذي أخذ يتسع مع كل تفوق عسكري تحرزه على القوات الحكومية والمتحالفين معها في بعض الأقاليم المجاورة.

عادت إثيوبيا إلى إحياء التوظيف السياسي للسد من زاوية تيغراي والسودان معا بهدف الحصول على تعاطف إقليمي ودولي
وجدت أديس أبابا في الهجوم الذي أعلنت عن وقوعه في منطقة بني شنقول مجموعة من الفوائد السياسية أبرزها كسر شوكة تمرّد عسكري متوقع في هذه المنطقة، إذ راجت معلومات حول اشتباكات قامت بها قوات محلية ضد الجيش الإثيوبي، بالتالي ربط أيّ تطور في هذا المجال بنسق تمتد خيوطه من الداخل إلى الخارج لتدمير السد.

يضاف إلى ذلك تشويه صورة جبهة تحرير تيغراي ووضعها في مربع من تقف ضد المشروعات الحيوية في البلاد التي يعوّل عليها في حدوث نقلة حضارية، ومن ثم دق جرس إنذار والتحذير من عواقب تفوقها واستدعاء صورتها السلبية في أذهان الشعوب الإثيوبية خلال فترة حكمها السابقة لنحو عقدين، بما يمنع عنها أيّ تعاطف في الوقت الراهن من قبل مجموعات عرقية تشعر بالغبن في عهد حكومة آبي أحمد.

كما أن ربط الحديث عن عدوان تيغراي على سد النهضة بالسودان وحدوده والحصول على دعم منه يعني أن هذه الجبهة لديها أجندة خارجية تعمل على تنفيذها وتضر بالمصالح الاستراتيجية للشعوب الإثيوبية، في رسالة تؤكد أنها ترمي إلى تحقيق أهداف خصوم أديس أبابا وتضرب بقوة أهمّ المشروعات القومية في الدولة.

علاوة على أن الزج بالسودان في أزمة سد النهضة من زاوية الدعم العسكري يمنح مصداقية نسبية لاتهامات رددتها بعض الأصوات الإثيوبية بأن هناك تدخلات خارجية تتم في بعض الأقاليم، وأن هذا التوجه تقوده الخرطوم ويحرّض على التوترات، وليس إجراءات الحكومة وسلبياتها هي التي تسببت في ذلك، بما يخضع هذه المعطيات لنظرية المؤامرة وانعكاساتها الخطيرة على البلاد، ويخفف في النهاية من وطأة المأزق الداخلي باعتباره ناجما عن مؤامرة مكتملة الأركان.

تعمل أديس أبابا على استدعاء الخرطوم في الهجوم على سد النهضة كمحاولة للحصول على دعم داخلي وخارجي ضدها يخفف من أي انجذاب بعض الجهات إلى السودان عقب ضجره بالشكوى من تداعيات السد، وتحمله إيواء الآلاف من اللاجئين والمشردين جراء الحرب التي شنتها الحكومة على إقليم تيغراي، ناهيك عن تهيئة الأجواء أمام أيّ عمل عسكري محتمل تقوم به قواتها لإعادة السيطرة على إقليم الفشقة السوداني.

في هذا السياق لم تتمكن إثيوبيا من إثبات تبعية إقليم الفشقة لها أو تعلن خوض حرب لاسترداده وهي تعلم أن ملكيته مثبتة وتعود إلى السودان، فلن تجد تعاطفا أو تفهما لموقفها، لكن عندما تروّج بأن الخرطوم شاركت في عدوان على سد النهضة تكون قد ضربت عدة عصافير بحجر واحد، كما كانت تفعل عندما بالغت في اتهام مصر بالتحضير لعمل عسكري، وأنها مستعدة للتصدي له في أيّ وقت.

لذلك تريد إثيوبيا ترسيخ فكرة استمرار استهداف السد من جانب مصر والسودان، وتوفير بيئة مواتية لتصعيد قادم في منطقة الفشقة، وحشر جبهة تيغراي في خانة العمالة لحساب جهات خارجية ودمغ تحركاتها بالتخريب، ومحاولة استعادة قدر من الشعبية التي فقدتها الحكومة المركزية بسبب ممارساتها الخاطئة الفترة الماضية.

الزج بالسودان في أزمة سد النهضة من زاوية الدعم العسكري يمنح مصداقية نسبية لاتهامات رددتها بعض الأصوات الإثيوبية بأن هناك تدخلات خارجية تتم في بعض الأقاليم
لم تتوقف المتاجرة بأزمة سد النهضة في حسابات الحكومة الإثيوبية، الأمر الذي يدفعها دوما إلى عدم التردد في دخول مناوشات عديدة، ورفض التوصل إلى تفاهمات محددة مع كل من مصر والسودان، فالدخول في هذه المرحلة من التوافق المعلن يسلب منها فكرة الاستثمار السياسي ويبعد عنها ورقة مهمة، ويتركها لمواجهة التحديات الداخلية المعقدة، ما يشير إلى أن سد النهضة أكبر من مشروع تنموي، حيث تحوّل إلى أداة تقوم الحكومة بتصفية حساباتها مع آخرين على وقع أحداثه وتطوراته.

تنطوي اتهامات جبهة تيغراي والسودان أخيرا على أن إثيوبيا أمام تفعيل جديد لمشروع سد النهضة يخرج عن سياقاته التنموية وتلك التي خبرها المراقبون بشأن عدم حصر استهدافه في مصر، وعلى دول المنطقة الانتباه بأن التهديدات مستمرة.

تمثل إضافة هذين الطرفين أن ثمة مرحلة من التجاذبات على وشك أن تندلع أملا في منع اتساع نطاق النزاعات في إثيوبيا، وحصرها في بؤرة سد النهضة والمنطقة المحيطة بها، بما يمنح الحكومة المركزية درجة من كسب الأصوات ربما تخفف من حدة الضغوط الداخلية، الأمر الذي يسعى له آبي أحمد بعد أن استهلك الكثير من أوراقه العسكرية، فالسد أصبح مشروع حياة لاستمراره على رأس السلطة في البلاد.