كتابات

الأربعاء - 15 سبتمبر 2021 - الساعة 11:58 م بتوقيت اليمن ،،،

مدى الثقافي/ كتب/ عبد الكريم الشهاري:


مقدمة
بعد أن قرأت نصوص المجموعة كدت أقع في فخ التشتت لكثرة القضايا التي تفجرت في رأسي وتستحق الاهتمام في الكتاب، ولكن بقليل من الهدوء والتروي، وجدت أن الكاتب قد تحدث في قصص عديدة عن تجربة الاغتراب في بلاد الغرب ومنها استلهمت عنوان القراءة (تغريبة الأسعدي في أحلام قابلة للتقشف).

خمسةَ عشر قصة في ثمانيةٍ وستون صفحة، هي حصيلةُ مجموعةٍ قصصيةٍ تحت عنوان (أحلام قابلة للتقشف)، سيبحر القارئ معها في عوالم متعددة الزمكان ومتنوعة الأحداث، إنه التكثيف كسمة دالة على جزالة النصوص وإمكانية القاص الأسعدي اللغوية التي أخرجت نصوصاً سردية تتوازى فيها فضاءات الأحلام والطموح في تغريبته كتجربة عبر عنها بعدة نصوص سردية مع أصالة الجذر القروي بحياة بسيطة يعيشها جل اليمنيون في بيئاتهم القروية بأسلوب سردي فني مكثف وعميق.

ومن العنوان ستكون بدايةُ هذه القراءة للمجموعة، حيث يعد العنوان مرتكزاً اساسياً في قراءة النص الأدبي باعتباره نصاً موازياً لمتن القصة القصيرة، نظراً لما يحمله العنوان من دلالات تعبيرية إيحائية فقد أصبح يجسد السند الأول لسبر أغوار النص وولوج أعماقه، والكاتب يبدو مصمماً من العنوان على إثارة دهشة المتناقضات التكاملية حد التنافر بعلاقة تجاذبية محددة وهنا يتجلى الإبداع في تصميم العنوان، وللوهلة الأولى يبدو العنوان ملهماً وبقليل من التأمل سنجد رمزية عنوان المجموعة (أحلام قابلة للتقشف) تغطي بفيضها التعبيري كل اليمنيين لتحتويهم في بوتقتها، وبعد أن تقرأ المجموعة القصصية ستجد أن الدلالة الرمزية تزيد وضوحاً وألقاً مع النصوص السردية التي استطاعت أن تقتنص أحلام اليمنيين وتتغلغل إلى ذاكرتهم لتترجم واقعهم المرير وأحلامهم المتقشفة بشكل أدبي ملموس، وهنا ستنطبق الدلالة للعنوان على مجتمع يمني ستكون أحلامه المتقشفة رغم بساطتها جسر عبور وأملاً للنجاة يراود الكثيرين،
الإهداء: (إلى أول من فخخ الذاكرة بالخيال وفجر عوالم الدهشة إليها وحدها لا شريك لها: جدتي) هنا الحس القصصي يرسل أعذب رسالة إهداء إليها وحدها للمصدر الأول للإلهام، ولو تساءلنا كم من الجدات تحكي القصص لوجدنا الكثيرات وكم من البشر يأبهون بعد أن يكبرون، لوجدنا النزر اليسير جداً ومَن مِن أولئك النزر اليسير سيكتب إهداءً لعمله الأدبي البكر إلى جدته؟ حتى ولو لم يظل في ذاكرته شيئاً عن تلك القصص، لكن سيبقى رابط الجينات كخيط معنوي رفيع يؤكد أن الامتنان لم يكن عرفاناً للجميل لقصص سرت عنه طفلاً فحسب، ولكنها رابطة استحقاق أثمرت مشروعاً أدبياً تفوق على كل الأقران من الأبناء والأحفاد، وما الإهداء هو بطاقة الوصول والتواصل الجميل بين الأجيال لتستمر الحياة في أداء رسالتها الجميلة بأسلوب قصصي بديع.

السرد واللغة

لم تتعدد الأصوات السردية لدى الكاتب في مجمل القصص أو بالنسبة لمحتوى القصة نفسها إلا فيما ندر، سيطر ضمير المتكلم على غالبية القصص إذا ما استثنينا قصة (خذلان) وكذلك (في ساعة نحس) حيث استخدم فيهما ضمير المخاطب وقصة (قرابين الخرافة) توزع فيها الصوت السردي ما بين ضمير المتكلم والمخاطب، كما استخدم القاص في إحدى القصص (غيمة) تكنيك البوليفونية (Polyphonic) وهو تكنيك يستخدم غالباً في الروايات ويُعنى بتعدد الأصوات والاستشهاد بعبارات مشهورة من خارج النص.

وبالنسبة للغة السرد في هذه المجموعة فقد جاءت من الفصيح بلا تقعر أو تعالي فيها على القارئ، فهي فصحى مبسطة، ذات إيقاع سريع تخلو من أدوات الربط ومن التكرار بفضل استخدام الكاتب لجملة التفعيلة وما توفره من حركية نشطة للنص، استخدام التكثيف للغة أيضاً سمة بارزة في المجموعة القصصية.

من ناحية جمالية هناك انزياح لغوي في مجمل النصوص، ويعد الانزياح اللغوي خرقاً للأعراف اللغوية المتعارف عليها ولكنه يحمل من النزعة الجمالية واللعب بالألفاظ والعبارات الكثير من الإبداع، ويجعل من النصوص ثرية مفتوحة على أكثر من تفسير تؤدي مهمتها في خطف القارئ إلى عالم السرد الممتع، بدأ هذا الانزياح من العنوان نفسه (أحلام قابلة للتقشف)

الحدث- التغريبة: -
في تناولي للمجموعة وجدت أربع قصص تُعنى بالاغتراب وقضاياه وهي (صك غفران، في ساعة نحس، نهايات غير سعيدة، اشتهاء الخطيئة) وعندما يكون الاغتراب بالتحديد إلى العالم الغربي (أمريكا) جاءت دلالة التسمية للقراءة فالتغريبة هي التوجه نحو الغرب وليس الاغتراب بمعناه العام، المكان في القصص الأربع أيضاً يدلل على أن الكاتب استوحى التجربة من موقع هجرته والقصص الخمس كشأن جميع قصص المجموعة من الواقع المعيش، ولكن الموضوع ليس تصوير فوتوغرافي لأننا أمام نصوص أدبية جميلة وهذا ما يعتمد عليه النص الأدبي بما يسمى في الأدب المماثلة((representation أي أن يترك الكاتب لخياله العنان ليغوص في التجربة ويتخيل قصة شبيهة بالواقع حد التماهي
(كانت الواحدة بعد منتصف الليل، عندما دلفت باب البار، كان الصخب في أوج حضوره، والدخان يعبق بالمكان، فبدت الكراسي ورؤوس السكارى كأطلال بلدي المغيب بين دخان الحروب)
هذا النص جزء من فقرة استهلالية لقصة(صك غفران) الوطن المنكوب حاضراً يملأ الذاكرة في وقت مستقطع يفترض أنه للترويح عن النفس، وفي هذه القصة ستأتي الحكمة ليس من أفواه الأطفال أو المجانين كما هو مشهور لدينا، ولكنها ستأتي من فتاة البار لتجعل بطل القصة يعيد حساباته تماما تجاه معنى الحياة برمتها، في القصة رمزية حول الصدمة الحضارية للمهاجر تحديداً إلى الغرب الذي تجسده شخصية الفتاة، ولابد للمهاجر أن يستوعب الفجوة الحضارية كما أن عليه أن يعرف أن للحكمة مصادر أخرى وهذا يعني أن عليه أن يواجه الصدمة الثقافية إن أراد أن يكون مرحباً به في تلك البلاد التي تجسدت في فتاة البار، البار رمز للشخصية الغربية الذي يتخيله العربي، ولكن يستطيع الكاتب أن يوصل رسالة أن البارات قد تحتضن الغفران وقدسية في أعماقها على عكس التصور المسبق للعربي عنها، ولذلك كانت نهاية القصة على هذا النحو(ما قامت به تلك الفتاة لم يكن مجرد دفع قيمة سكرة عابرة، لقد منحتني صك غفران ليلتها وغفرت خطايا حياتي السابقة)
(في ساعة نحس) تصور القصة العبثية التي يعيشها بعض المغتربين، لكن مجرد رسالة من الأم تعيده إلى بر الأمان، إنه نداء الأرض صوت الذكريات الأولى في أعماقه سيعيده بعد أن توشك الصدمة الثقافية أن تودي به، وفي هذه القصة تجسد تلك العاهرة الوجه الآخر للغرب المتربص بالعربي المكبوت والذي سينطلق على غير هدى لإشباع رغباته، قبل أن تعيده إلى أصالته رسالةٌ من أمه.

في (نهايات غير سعيدة) يقارن بطل القصة ما بين حياته الروتينية المملة في رعي الأغنام وبين عبد الله الذي اغترب ولكن إلى الأبد كما يبدو، والدته ما تزال متفائلة لرجوع ولدها بعد مرور سبع سنوات دون أن يرسل لها شيء، إنه قلب الأم الكبير، ولكن صوت السارد يتدخل من خلال معرفته بعبدالله وزمالته المشتركة معه في نفس الفصل وذكريات ضرب الأستاذ عبده له لتبدو عودته مستحيلة ويعلن أنه قد قطع صلته بأمه وقريته تماماً.

في (أسوار الوهم) ما زالت تلح على الكاتب هموم المغترب في تغريبته وما بين هم المعيشة الذي يجعل من المغترب اليمني يعمل أي شيء وفي أي مكان لتحقيق الطموح المادي سنجد أنه يهتم بتطوير ذاته لمواكبة ذلك العالم المتقدم،
ختاماً: إن رسائل نصوص الاغتراب لدى الأسعدي واضحة، يجب التخلص من كل ما يعلق بالذاكرة عن قراءتنا الخاصة للغرب والغربي على وجه الخصوص وحتى يجب إعادة النظر فيما نعتقده ثابتاً بالضرورات الدينية والاجتماعية، إنها نسبية الحقائق، فلا شيء مقدس سوى العلاقات الثنائية على أسس إنسانية والعمل الذي يحقق للإنسان ذاته وكينونته، ولعل الخلفية العلمية للكاتب ككيميائي جعلته يستفيدُ من التفاعلات الكيميائية القائمة على أوزان دقيقة لتوظيفها في النصوص وعكسها على العلاقات التي يجب أن تكون بين البشر أولا كجنس إنساني واحد بعيداً عن لغة الحضارات الطبقية.

في نصوص الأسعدي وتغريبته من الثراء الفكري ما جعل من مفاهيم ثابته لدينا، كالوطن والثقافة الدينية والاجتماعية تبدو أقرب إلى مفاهيم العولمة في حراكها النشط على صفيح ساخن، حد الوصول إلى ما يشبه الهلام، إعادة ضبط المصطلحات بالواقع العالمي ربما كانت رسالة خفية في نصوص الأسعدي التغريبية.

وبشكل عام المجموعة القصصية (أحلام قابلة للتقشف) تبشر بميلاد كاتب فذ سيكون له شأن في كتابة النص المتمرد والمفعم بالحيوية اللغوية وثراء البديع الجمالي للنص، وسأجزم أن نص السرد اليمني قد كسب كاتباً جميلاً ستكون له جولات في عالم السرد ولا عزاء لأمراء الحروب الدينية وكهنة التكلس الاجتماعي المعتق.