كتابات

السبت - 09 أكتوبر 2021 - الساعة 09:32 م بتوقيت اليمن ،،،

مدى الثقافي/ يونس دافقير*:


أدار عزيز أخنوش مسلسل تشكيل الحكومة بأسلوب ينتصر لدولة المؤسسات ولهيبتها، لا تسريبات ولا تصريحات طائشة هنا وهناك، كانت لحظة تشكيل الحكومات في العشر سنوات الأخيرة لحظات توتر أحيانا وفرجة أحيانا أخرى، وفيها حضرت الشعبوية التي تفرغ الأشياء من قيمتها وجديتها. ما من شك في أن تشكيل الحكومات هو شأن عام، لكن هناك دائما حدودا فاصلة بين إضفاء الطابع العمومي على قضية ما أو تمييعها بجعلها مشاعا على العموم.

ويبدو أن تلك الممارسات البهلوانية قد ولت إلى غير رجعة.
وكان مفروضا أن يكون هناك مجهود مماثل على مستوى إنتاج اللغة السياسية المؤطرة للمرحلة التي نحن بصددها، غير أن أحزاب التحالف الحكومي الثلاثة انغمست في حسابات تشكيل مكاتب الجماعات والمقاطعات ونسيت وظيفتها ودورها في تحويل انتخابات ثامن شتنبر وما بعدها إلي رأسمال سياسي وديمقراطي.

ويكاد المتتبع لا يعثر على أثر لمناضلي وقادة الأحزاب الثلاثة، يمكن أن نتفهم الصمت وواجب التحفظ فيما يخص مسار تشكيل الحكومة، لكن لا شيء يمكنه أن يبرر إطلاقا هذا التقاعس والغياب، الفاضح والمعيب، عن تحصين واستثمار العمق السياسي والرمزي لما وقع في الثامن من شتنبر الماضي.

على مدى شهر، لاحظنا وجود سعي حثيث لإفراغ الاقتراع التشريعي والجماعي والجهوي من كل مضامينه السياسية الكبرى: ازدهار ثقافة المشاركة الديمقراطية من جهة، وقدرة الصناديق على إحداث تغيير سياسي تعجز عنه ألاعيب الكواليس.

وسرعان ما استعاد المنهزمون في ثامن شتنبر المبادرة بعد أن وجدوا الساحة فارغة، الذين أربكت نسبة المشاركة رهانهم على «المقاطعة» والذين انهزموا بقسوة، إما أنهم لجؤوا إلى النتائج التفصلية في الدوائر المحلية لتسفيه نسبة المشاركة التي فاقت نصف الكتلة الناخبة، أو أنهم وجدوا في بعض أحداث تشكيل مكاتب الجماعات والمقاطعات والجهات فرصتهم لاحتقار إرادة الناخبين في التغيير السياسي.

وماذا يفعل أولئك المنتشون بانتصارهم، والذين لن نعثر لهم على أثر منذ الندوات الصحفية التي أعلنوا فيها فوزهم؟

من الواضح أنهم منشغلون جدا باقتسام تركة البيجيدي في المناصب، وباستثناء بلاغ يتيم يتحدث عن مبررات التحالف الثلاثي في الجهات والجماعات، لا نجد أي خطاب سياسي يعمل على تأطير مخرجات ثامن شتنبر وتحويلها إلى خطاب سياسي حمال للمعاني والقيم الديمقراطية، وحامل لرهانات التغيير.

كي نفهم ذلك ينبغي لنا إجراء مقارنة بيداغوجية: بعد انتخابات 2011 وانتخابات 2016 أنتج نشطاء حزب العدالة والتنمية العشرات من التعابير والمفاهيم السياسية، التي سمحت لهم بالتحكم في الرأي العام وتملك اللحظة السياسية والسيطرة عليها، بل إن ذروة هذا النجاح ستتبدى في اللحظة التي صار فيها اليساريون الليبراليون يستهلكون في خطابهم مفاهيم أنتجها العقل السياسي للبيجيدي. في الحقيقة كان ذلك كارثيا.

لنتذكر ذلك من جديد : «التفويض الشعبي».. «التدافع» .. «التماسيح والعفاريت«، الحراك»،..«الاستهداف» » .. «الدولة العميقة» ، «حزب البؤس» .. «الثورة المضادة» … كلها تعابير إما أنتجها الحزب أو استوردها من المشرق، واستطاع أن يسيج بها الحياة السياسية ويفرض بواسطتها قراءته الخاصة لمجريات الأحداث وللنسق السياسي برمته… حتى صار نجاح البيجيدي في الإنتخابات مرادفا للديمقراطية، وهزيمته فيها عنوانا ل «الردة الديمقراطية».

لم يسقط البيجيدي إلا بعد أن بدأ هذا القاموس والبناء المفاهيمي يفقد بريقه، كما لو أنه فقد أسلحته الضاربة في سوق الخطابة وتشكيل الوعي الجمعي للناخبين، بل إن هذا القاموس السياسي هو ما شجع فئات اجتماعية لم تصوت على الحزب في 2012 على التصويت لصالحه في 2016 وربما أيضا أن تلاشي هذا القاموس هو ما جعل جزءا من كتلته الناخبة تمتنع عن التصويت في انتخابات 2021.

السياسة بعد الإنتخابات ليست مجرد أصوات ومقاعد ووزارات ودواودين ومكاتب مقاطعات وجماعات وجيش عرمرم من المستشارين، السياسة خطاب ومفاهيم ورموز وإشارات ومشاعر أيضا.

الخطاب السياسي المصقول تعاقد مع الناس وصناعة لعلامة سياسية خاصة، وتحويل اللحظة الإنتخابية إلى لحظة مفاهيمية هو ما يخرجها من الزمن العابر إلى زمن البقاء والاستمرارية…

لقد رحل البيجيدي لكنه خطابه حول الانتخابات والحكومات السابقة ما يزال عالقا في الأذهان. لكن ما هي اللغة والمفاهيم التي ارتسمت في أذهاننا منذ أن فازت الأحزاب الثلاثة بالإنتخابات والحكومة؟ لا شيء مع الأسف.

وظيفة الحزب السياسي لا تنحصر فقط في إنتاج الخطاب التدبيري، التقنقراطية قادرة على فعل ذلك وبتميز أيضا، وظيفة الحزب الجوهرية هي إنتاج الخطاب القادر على التأطير والتعبئة، وحتى إن فشل التدبير يلعب الخطاب دور المنقذ والمعوض، وما نراه حتى الآن مجرد وعود في التدبير بلا خلفية أو تأطير سياسيين. إن أولى النتائج المباشرة لذلك، هي أن أحزاب التحالف الحكومي لن تمتلك مستقبلا على ما أظن، السياج اللغوي الذي قد يكون من شأنه حماية وترويج تجربتها في التدبير.

وما يبعث على الاستغراب من هذا العقل السياسي الكسول، هو أن اقتراع ثامن شتنبر مليئ بالمعاني والقيم القادرة على إنتاج خطاب سياسي يحول الديمقراطية الناشئة في المغرب من عتبات ومزاعم «النكوص الديمقراطي» إلى مكانة وحقائق «التغيير السياسي الديمقراطي».

* كاتب وصحفي مغربي