نافذة على السياسة

الإثنين - 20 ديسمبر 2021 - الساعة 09:18 م بتوقيت اليمن ،،،

مدى برس/ مركز صنعاء للدراسات- أحمد الطرس العرامي*:


مقدمة:

كان الإعلان عن اندماج فَرعَي تنظيم القاعدة المسلّح في اليمن والسعودية عام 2009 بمثابة تغيير جوهري في هيكل التنظيم، إذ لم يعد محصورًا داخل حدود دول إقليمية. كان من المقرر أن يُطلق على التنظيم الجديد، الذي أُعلن عنه من محافظة شبوة في اليمن ويرأسه اليمني ناصر الوحيشي، المساعد الشخصي السابق لأسامة بن لادن، اسم تنظيم القاعدة في جزيرة العرب. احتفظ التنظيم بهذا الاسم حتى اليوم.

ومع تولي رجل الدين الأمريكي-اليمني أنور العولقي منصب كبير المنظرين فيه، أسس تنظيم القاعدة في جزيرة العرب عام 2011 فرعًا له باسم أنصار الشريعة. جاء تأسيس أنصار الشريعة ضمن استراتيجية جديدة بعد أن أدرك التنظيم ضرورة التكيف مع بيئته، جزئيًّا، عبر التغلغل في النظام القبلي المحلي والعمل من خلاله. كانت الفكرة “إعادة تغيير صورة” التنظيم وجعله مقبولًا أكثر عبر تصويره على أنه تنظيم محلي. كان هذا يتناقض مع معتقدات منظري تنظيم القاعدة الأكثر تطرفًا وغيرهم من المتشددين الإسلاميين الذين يجادلون بضرورة عدم تقديم أي تنازلات لأي نظام حكم لا يلتزم بتفسيرات التنظيم للشريعة الإسلامية.

شهدت هذه الاستراتيجية الجديدة أكبر نجاح لها بين عامي 2010 و2014 بالتغلغل في قبيلة قيفة بمحافظة البيضاء وسط اليمن. كان هذا أطول وجود للتنظيم في منطقة واحدة داخل اليمن والأكثر استقرارًا، إلا أنه لم يُترجم إلى امتداد واسع من الدعم داخل القبائل اليمنية الأخرى، لأسباب ستُشرح لاحقًا. يسلط وجود التنظيم في قيفة الضوء على قدرة التنظيم في الاستفادة من الانقسامات القبلية وانهيار الدولة لترسيخ وجوده داخل النظام القبلي اليمني.

كانت أسرة الذهب جزءًا محوريًّا في حدوث ذلك. ورثت الأسرة لقب المشيخة في قبيلة قيفة منذ النصف الثاني من القرن العشرين على الأقل. حين توفي الزعيم القبلي أحمد ناصر الذهب عام 1987، أدت الانقسامات بين أبنائه الثمانية عشر إلى حرمان جناح في الأسرة من الإرث. انجذب هؤلاء الإخوة، بقيادة طارق الذهب، في نهاية المطاف إلى التنظيم، ما سهّل وجوده داخل قيفة والإعلان الوجيز في يناير/كانون الثاني 2012، عن تأسيس إمارة إسلامية في مدينة رداع، أكبر مدن محافظة البيضاء. بدعم من التنظيم، استولى جناح أسرة الذهب المؤيد للتنظيم على زعامة قبيلة قيفة ليجبر جناح الأسرة المناهض للتنظيم على مغادرتها.

جند التنظيم في قيفة زعيم القبيلة، الذي يُعد السلطة العليا لها. في الواقع، كانت المنفعة مشتركة؛ وبهدف السيطرة على المنطقة، احتاج التنظيم إلى شخصيات مثل طارق الذهب وإخوته ومكانتهم في القبيلة، فيما احتاج طارق وإخوته إلى التنظيم لتعزيز مكانتهم واستعادة حقهم في الإرث وتحسين هيبتهم. أصبح الانتساب إلى التنظيم وتولي منصب أمراء أو زعماء محليين في التنظيم شرطًا أساسيًّا للظفر بمنصب زعيم القبيلة.

ستبحث هذه الورقة العلاقة بين التنظيم وقبيلة قيفة وقصة صعود جناح أسرة الذهب المؤيد للتنظيم داخل القبيلة وسقوطه في نهاية المطاف. تسلط القصة الضوء على الطريقة التي تعامل بها التنظيم مع القيود التي فرضها عليه النظام القبلي اليمني، وكيف استغل الانقسامات داخل أسرة الذهب وبعض التناقضات في النظام القبلي الذي يعمل داخل هيكل دولة حديثة. كما ستحلل الورقة كيف أثبت في نهاية المطاف أن محاولة إيجاد التوازن بين النظام القبلي وأهداف التنظيم أمر في غاية الصعوبة بالنسبة للتنظيم، ما أدى إلى انهيار مشروعه في قيفة.

منهجية

اعتمدت هذه الورقة على خمس مقابلات مع مصادر قبلية من قيفة ومنطقة رداع، بينهم أحد أفراد الجناح المعارض للتنظيم، ورئيس لجنة الوساطة التي أخرجت التنظيم من رداع عام 2012، إضافة إلى عدة مقابلات مع مصادر أخرى من الأسرة والقبيلة استدعى الأمر إخفاء أسمائهم وعدم تحديد طبيعة المعلومات التي تحدثوا حولها لأسباب أمنية. كما كان من المخطط إجراء مقابلات أخرى لم تتم لمخاوف أمنية شعر بها الذين ستتم مقابلتهم، والكاتب الذي تلقى تهديدات في السابق من تنظيم القاعدة في جزيرة العرب. استفاد الكاتب من خبرته في رداع لإنتاج هذه الورقة، إذ تلقى تعليمه في جامعة البيضاء-كلية التربية والعلوم في رداع بين عامي 2001 و2005 ثم عمل معيدًا في الكلية حتى عام 2013. لكن الجامعة فصلته من منصبه نتيجة ضغط من المتشددين عقب اتهامه بمناقشة قضايا مثيرة للجدل مع الطلاب. تزامن وجود الكاتب في رداع مع بداية وجود التنظيم هناك وفي قيفة المجاورة، وكان ذلك مفيدًا للغاية في إعداد هذه الورقة من ناحية فهم الحيثيات القبلية والسياق الاجتماعي وخلفيات العديد من الأحداث التي تتطرق إليها الورقة، وكان الباحث شاهدًا على الكثير منها.

قبيلة قيفة وأسرة الذهب

تتمركز قبيلة قيفة في مديريتي ولد ربيع والقريشية، شمال شرقي محافظة البيضاء. ولها ثلاثة فروع: آل غنيم، وآل ولد ربيع، وآل محن يزيد، وتهيمن أسرة الذهب على الفرعين الأخيرين. يرجع الفضل لشهرة أسرة الذهب، ومشيختها الموروثة، إلى الشيخ أحمد ناصر الذهب، الذي كان أبرز شيخ قبلي في المنطقة. كان للشيخ أحمد علاقة معقدة مع الدولة اليمنية، فهو عارض ثورة عام 1962 في شمال اليمن التي أفضت إلى إنشاء الجمهورية العربية اليمنية (اليمن الشمالي) وشهدت نهاية المملكة المتوكلية والإمامة الزيدية.

توفي الشيخ أحمد الذهب (الأب) عام 1987، فخلفه ابنه الأكبر، الشيخ علي، الذي أصبح عضوًا في البرلمان اليمني عن حزب البعث العربي الاشتراكي. لكن الشيخ علي لم يكن سوى واحد من أبناء الشيخ أحمد والبالغ عددهم 18، الذين اختلفوا في نهاية المطاف على الميراث والنفوذ داخل قيادة القبيلة.

انقسم الإخوة في أسرة الذهب إلى جناحين. كان الشيخ علي، إلى جانب حزام وخالد، أولاد الزوجة الأولى القوية والمتنفذة للشيخ أحمد، هم الأبرز في الجناح الأول، واستولوا على زعامة القبيلة وحرموا إخوانهم غير الأشقاء عمدًا من ميراثهم، بما في ذلك الأراضي الزراعية الشاسعة التي تركها والدهم. حُرم الجناح الثاني، الذي يتألف من الأخوة غير الأشقاء، ومنهم طارق ونبيل وعبدالرؤوف وعبدالإله وقائد وأحمد وسلطان، من إرث والدهم وأُجبِروا على البحث عن طريقة للمطالبة بما اعتبروه حقًا لهم. وبالتالي، احتضن الجناح الثاني تنظيم القاعدة في جزيرة العرب نهاية المطاف.

أُجبر الإخوان الأصغر سنًا من أسرة الذهب على مغادرة قيفة ليستقروا في صنعاء، منتصف العقد الأول من القرن الحادي والعشرين. ووفقًا لمصدر من جناح الأسرة المناهض لتنظيم القاعدة، تعرّف طارق في صنعاء على رجل الدين أنور العولقي المولود في الولايات المتحدة الذي غادرها عام 2002 بعد شكوك تورطه في هجمات 11 سبتمبر/أيلول الإرهابية. توطدت العلاقة بين طارق -الذي أصبح فيما بعد أهم أفراد الأسرة داخل التنظيم -والعولقي حين تزوج الأخير من أخت طارق. أنشأ هذا الزواج علاقة مباشرة بين التنظيم والإخوان الأصغر سنًا من أسرة الذهب، الذين زُوِّدوا بالمال والسلاح، وهو ما مكّنهم من العودة إلى قيفة.

صعود وسقوط مشروع تنظيم القاعدة في جزيرة العرب في قيفة

عاد طارق إلى قيفة قبل وقت قصير من وفاة أخيه الأكبر، الشيخ علي، أواخر عام 2010. ورغم انتقال قيادة القبيلة رسميًّا إلى ابن الشيخ علي، ماجد، رسخ طارق نفسه زعيمًا داخل القبيلة وكمرجعية لحل المشاكل والنزاعات المتعلقة بالثأر. سمحت له مكانته -التي أخذت في التنامي -داخل القبيلة بزيادة العلاقات بينها وبين التنظيم. وبدأ التنظيم المسلح يرى في قيفة ورداع مكانين مناسبين لتأسيس محاكمه الشرعية، وبالتالي إيجاد موطئ قدم له في المنطقة.

أدى تزايد نفوذ طارق والتنظيم داخل قيفة إلى زيادة هجمات التنظيم المسلح على معارضيه في رداع، واقتحام التنظيم المدينة نهاية المطاف في 13 يناير/كانون الثاني 2012 وأعلنها إمارة إسلامية. ومن مسجد العامرية التاريخي في مدينة رداع، انتهز طارق الفرصة ليعلن ولاءه لزعيم تنظيم القاعدة في جزيرة العرب، ناصر الوحيشي، وكذلك لزعيم تنظيم القاعدة، أيمن الظواهري، ما عزز العلاقة بين طارق وتنظيم القاعدة في جزيرة العرب.

لكن سيطرة التنظيم على مدينة رداع كانت قصيرة الأمد، إذ سارعت القوات القبلية من المناطق المحيطة نحو المدينة، وبعد نحو أسبوعين من القتال، نجحت في طرد التنظيم وطارق من المدينة. ورغم السماح لطارق بالعودة إلى قرية المناسح، مسقط رأس أسرته، إلا أن أخويه حزام وخالد وكذلك ابن أخيه الشيخ ماجد تبرؤوا منه علنًا في 22 يناير/كانون الثاني 2012. وفي الشهر التالي، قُتل طارق وأخوه أحمد على يد حزام خلال مواجهة مسلحة. كان الغرض من قتل الأخوين على يد حزام إضعاف التنظيم، ومنع انتشار الثأر بين القبائل المختلفة نظرًا لأن طارق قُتل على يد أحد أفراد أسرته.

مع ذلك، لم تنته القصة هنا، إذ في نفس اليوم الذي قُتل فيه طارق، قُتل حزام على يد مسلحين من التنظيم بقيادة أخيه قائد، وأُجبر الشيخ ماجد على مغادرة قرية المناسح إلى صنعاء. كانت قوة التنظيم قد نمت في قيفة لدرجة أنه تمكن من تجاوز مقتل طارق واستغلاله كفرصة لترسيخ سيطرته على القبيلة. وهكذا أصبحت قيادة القبيلة أخيرًا بيد الأخوة الأصغر سنًا من أسرة الذهب الذين حُرموا من الميراث سابقًا، وقسّموا المسؤوليات القبلية والمسؤوليات المتعلقة بتنظيم القاعدة في شبه جزيرة العرب فيما بينهم.

وبالتالي، أصبح التنظيم، الذي حظي بدعم قبلي رسمي في قيفة إلى حد ما، في موقف يسمح له بالتنقل في أرجاء المنطقة وبدأ بفرض قوانينه الخاصة. ونتج عن ذلك عدد من الجرائم ارتُكبت في حق أشخاص اعتُبروا “مشعوذين”، وتهديدات طالت المدنيين، ومنهم مؤلف هذه الورقة، الذي تلقى تهديدات بالقتل في أبريل/نيسان 2012 بسبب آراء تحاور فيها مع طلابه في فترة عمله كمحاضر في كلية التربية والعلوم بمدينة رداع.

استمر وجود التنظيم في مدينة رداع والمنطقة المحيطة بها حتى يناير/كانون الثاني 2013، حين شنت القوات الحكومية عملية ضد المسلحين؛ عقب اختطاف التنظيم ثلاثة أجانب في ديسمبر/كانون الأول 2012. واستمر استهداف الولايات المتحدة والقوات الحكومية لأفراد أسرة الذهب الذين كانوا أعضاء في التنظيم، حيث قُتل قائد ونبيل بغارة شنتها طائرة أمريكية مسيّرة عامي 2013 و2014 على التوالي.

وبحلول سبتمبر/أيلول 2014، عند استيلاء جماعة الحوثيين على العاصمة صنعاء وتوسعها في باقي الأراضي اليمنية، وظفت جماعة الحوثيين المسلحة علاقة التنظيم بقبائل قيفة كمبرر لدخول البيضاء. قُوبل التوغل بمقاومة القبائل المحلية، وكذلك التنظيم، ولكن في نهاية المطاف، أقنع الحوثيون الشيخ ماجد، الذي كان يقيم في صنعاء، بالانضمام إلى صفوفهم. وسقطت قرية المناسح في يد الحوثيين أواخر أكتوبر/تشرين الأول 2014، وما تزال تحت سيطرتهم. انسحب التنظيم إلى المناطق النائية في قيفة، مثل يكلا والمشيرف، على الحدود مع مأرب. قاتل الحوثيون القوات الحكومية وغيرها من القوات المناهضة لهم، بما في ذلك القاعدة في جزيرة العرب هناك وفي أجزاء أخرى من البيضاء، حتى سبتمبر/أيلول 2021، عندما هزم الحوثيون القوات الحكومية ومقاتلي تنظيم القاعدة وسيطروا على المحافظة بشكل كامل.

تنظيم القاعدة في جزيرة العرب والنظام القبلي اليمني

تميزت العلاقة بين تنظيم القاعدة وقيفة بتطور في ارتباط التنظيم بالقبائل اليمنية. وبينما لم يستقر التنظيم في موقع محدد لفترة طويلة وتنقّل بين عدة مناطق، إلا أن وجوده في قيفة كان يعني ارتباطًا صريحًا بموقع محدد وقبيلة بعينها. وكان الاندماج المتزايد للتنظيم نتيجة معرفته بالأهمية القبلية لأسرة الذهب، ولترقي أفراد الأسرة داخل هيكل التنظيم. وتغلغل التنظيم في الهيكل الاجتماعي لقيفة وتكيّف معه.

لكن التنظيم و”القبيلة” متمايزان من حيث الهوية والهيكل، فالتنظيم كيان ديني وسياسي لا يرتبط بالضرورة بأي مكان. يتوحد أعضاؤه حول فكرة دينية ترى أن الخلافة هي المقاربة السياسية الوحيدة للحكم، ويستخدم العنف لتحقيق ذلك. أما القبيلة هي كيان اجتماعي مستقل يتوحد أفرادها على أساس عرق مشترك أو روابط جغرافية محددة، ويتبعون نظامًا من الأعراف ينظم العلاقات بين الأفراد داخل القبيلة الواحدة ومع القبائل الأخرى. كما أن تنظيم القاعدة في جزيرة العرب، وهو فرع من شبكة تنظيم القاعدة الأوسع، مستقل إلى حد كبير، في حين أن استقلال القبيلة محدود لأنها جزء من تحالف قبلي أوسع وتخضع أيضًا للدولة.

وللكيانين أطر عمل مختلفة حين يتعلق الأمر بممارسة العنف. ففي حين تعتمد قوة القبيلة غالبًا على عدد أفرادها القادرين على القتال، غير أنها لا تُعتبر قوة عسكرية منظمة، ولا يُعد العنف جزءًا متأصلًا في هوية القبيلة، إذ ينص النظام القبلي على أن العنف الذي تمارسه قبيلة ما أو رجال قبيلة ما يجب أن يندرج في إطار القواعد القبلية. أما التنظيم يعتبر أن الحدود الوحيدة التي تقوّض العنف هي تلك التي يحددها تفسيره للشريعة الإسلامية.

ولكن هناك أوجه تشابه بين الكيانين، مثل ميلهما نحو التحفظ والتقاليد. لكن القبيلة لا تُعد حليفًا “طبيعيًّا” للتنظيم، ولا يُعد النظام القبلي بطبيعته بيئة خصبة لنمو التنظيم. لا يتشارك الكيانان الإيمان في أيديولوجية واحدة، وتُحدَّد العلاقات القبلية بالتنظيم في المقام الأول على أساس المصالح القبلية. في الواقع، كانت القبائل في أغلب الأحيان عائقًا أمام توسع التنظيم والجماعات المسلحة الأخرى.

وفي حين تقدّر القبائل اليمنية استقلالها، بما في ذلك قبيلة قيفة، لكنها تنظر غالبًا إلى الدولة باعتبارها السلطة المطلقة (الدولة التي خلفت الإمامة الزيدية والتي اعتبرتها قبيلة قيفة السلطة المطلقة ما قبل عام 1962 في شمال اليمن). توطدت العلاقة بين القبائل والدولة على مدى قرون، ولم تكن هناك أي رغبة لدى أفراد القبائل في تغييرها، أو في قبول تسلل قوة خارجية تسعى إلى تغيير العلاقة بصورة جذرية، كتنظيم القاعدة في جزيرة العرب. حقيقة أن التنظيم يرغب بزخم في إسقاط الدولة اليمنية تعني أن الاصطفاف مع التنظيم يعكس أن القبيلة تنحاز بنشاط ضد الدولة بحيث تمسي معارضة لها، وهو الموقف الذي لا ترغب إلا قلة قليلة%