كتابات

الثلاثاء - 17 مايو 2022 - الساعة 03:02 م بتوقيت اليمن ،،،

مدى الثقافي/ محمد الحمامصي:


تأتي أهمية كتاب “ديوان الخط العربي في سوريا.. نقوش العمائر المملوكية” للباحث فرج الحسيني، والتي تعد بحق موسوعة للخط العربي في سوريا في الفترة المملوكية، من الإطار الجغرافي الذي تتناولها وهو سوريا، التي أصابتها تلك الفتنة المظلمة والتي اختلط فيها كل شيء واضطرب فيها كل شيء وكانت من نتائجها أحداث جسام وخطوب هائلة نالت البشر والحجر وكل شيء، كان من سوء حظنا أننا عاصرناها وشاهدنا هذا الخراب والدمار في حلب وفي حمص وحماة وفي تدمر وفي غيرها من البلاد.

وللأسف كنا مغلولي الأيدي قليلي الحيلة مقصوصي الجناح لم نستطع أن نفعل شيئا سوى الأسف الشديد ومصمصة الشفاه، على رغم ذلك تمكن الباحث من رصد أهم النقوش التي تختزل الجانبين الفني والتاريخي.

وسيلة إعلام

بدأ الحسيني دراسته، الصادرة عن مركز دراسات الخطوط التابع لمكتبة الإسكندرية، بمقدمة بين فيها طريقة عرض وتقسيم الدراسة إلى فصول وأبواب وأسباب هذا التقسيم وأهدافه، وأوضح المنهج البحثي والرموز التي يجدر بباحث النقوش وقارئها أن يعرفها، ليمهد بعد ذلك لأهمية النقوش الكتابية من ناحية الشكل والمضمون، ويعرض مدى مساهمة النقوش المملوكية في خدمة الآثار من حيت تأريخ بنائها ورصد مراحل تجديدها وبيان وظيفتها ونسبتها إلى مؤسيسيها الحقيقيين، ثم يوضح وظيفة النقوش من وجهة نظرية الإعلام في العصور الوسطى، كاشفا أنها من أهم وسائل الإعلام التي كان الحكام والولاة والأفراد يحرصون عليها، فهي تضمن لهم الخلود وتظهرهم للعامة وتمكنهم من بث رسائل قصيرة طويلة الأمد في وقت واحد.

وعدّ الحسيني دراسته بادرة لإعداد مشروع أكبر عن الخط العربي في عدد من الدول. انطلاقا من كون نقوش العمائر الإسلامية تعتبر أحد مقومات الفن الإسلامي وعنصرا جوهريا من عناصره، وهي تقوم أيضا بدور وثائقي مهم لأنها تخفي في طياتها معاني وأفكارا ذات مغزى بعيد، وهي تنطوي على جوانب دينية روحية وسياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية للعصور الوسطى؛ أو قل هي تحتوي على أفكار الإنسان وهي مجال واسع لفكره الفلسفي وتحمل رسائل خفية تتصل بالعقل عن طريق البصر ومن كان الحرص على تسجيل النقوش وجعلها ظاهرة في الواجهات وفوق المداخل لتخلد أسماء الحكام.

وأشار إلى أن هذه النقوش قبل كل شيء وسيلة حفظ كلام الله وإعلان تمجيد الأمراء واستدعاء البركات واستمطار النعم والرحمات، مؤكدا على أن للنقوش المملوكية مساهمة كبيرة في خدمة الآثار من حيث إنها تؤرخ للبناء وترصد مراحل تجديده تبين وظيفته ونسبته إلى مؤسسه الحقيقي، ثم وضح أن لهذه النقوش وظيفة إعلامية طبقا لطرق وأساليب الإعلام قديما، التي كان الحكام والولاة والأفراد يحرصون عليها، فالنقوش تضمن لهم الخلود وتظهرهم للعامة وتمكنهم من بث رسائل قصيرة طويلة الأمد في وقت واحد.

ورأى الحسيني أن النقوش تكشف إنشاء العمائر وتجديدها تخضع لأسباب عديدة منها تخليد الانتصارات والاحتفال بجلاء الأعداء أو استيلاء على قلعة من القلاع أو تجدد الأسوار قبل الحصار وتجدد العمائر بعد الزلازل والحرائق، وتخليد للسلطان أو أن يكون إنشاء العمائر نوعا من الهروب من المصادرات وتأميم الممتلكات.

وأوضح أن النقوش الكتابية التي تناولتها دراسته قام بنشرها عديد من المستشرقين، ولكن هذا الحقل من الدراسات الآثارية ما زال في حاجة إلى المزيد من الدراسات التوضيحية والتفسيرية لهذه النقوش وتوضيح جوانب كثيرة مر بها المستشرقون مرورا سريعا أو أغفلوها وفي حاجة أيضا إلى صور تخلدها من الاندثار وتفريغات نوعية لتقريب النقوش وإظهارها، وهذا شأن كل العلوم لم تنته إلى غايتها ولا آمادها ولم تكتمل مباحثها، وأحسب أنه لن يكتمل ولن ينتهي فرع من فروع العلم إلى غايته الأخيرة ولن تقال فيه الكلمة الأخيرة أيضا وإنما العلوم في تطور واتساع وتشعب مستمر، وفروع علم الآثار لم تنته إلى غايتها بل هي في حاجة دائما إلى التجديد واستئناف الدرس والبحث والاستقصاء.

وهكذا قام الباحث فرج الحسيني بدراسة النقوش الكتابية المملوكية في سوريا، حيث صور الغالبية العظمى منها ووصفها وبين حالتها من الحفظ والاندثار وفرغ معظمها أيضا وحاول تفسير نصوصها ما استطاع إلى ذلك سبيلا.

وكشف الحسيني أنه يتناول بالدراسة والوصف والتفسير 355 نقشا كتابيا من عمائر المماليك في سوريا وهو بذلك يعد موسوعة للنقوش الكتابية المملوكية في سوريا بجميع أنواعها سواء أكانت نقوشا تأسيسية أم وقفية أم دعائية أم دينية، باستثناء نقوش المراسيم التي أفرد لها مركز دراسة الخطوط كتابا خاصا لاحقا.

وقال إن العمائر التي تناولتها الدراسة ليست نوعية بعينها، ولكنها تضم جميع أنواع العمائر من دينية (مساجد ومدارس ودور قرآن ودور حديث وترب جنائزية)، وعمائر حربية (قلاع وأسوار) وعمائر مدنية (بيمارستانات وأسبلة وخانات وطواحين)، وهي ليست في مدينة معينة في سوريا بل في كل المدن كدمشق وحلب وحماة وحمص واللاذقية وجبلة والباب وغيرها من المدن الصغيرة، كل ذلك في صور مباشرة ولوحات واضحة وتفريغات دقيقة.

ولفت الحسيني إلى أنه قام بنشر نقوش جديدة اكتشفها هو كانت محجوبة عن المستشرقين يصل عددها إلى 15 نقشا جديدا كنقوش مئذنة السلطان قايتباي بالجامع الأموي بدمشق، ونقش مئذنة جامع الأمير تنكز بدمشق، ونقش سبيل المدرسة الشاذبكية بدمشق، ونقشين للظاهر بيبرس بقلعة الكهف، ونقش لجامع البواكب بحلب (771هـ/1370م)، ونقش بجامع رجب السيواسي بحلب (781هـ/1379م)، وطاحون منجك بالكسوة (764هـ/1363م)، وطاحون السبعة بحمص (864هـ/1459م)، ونقوش مئذنة بحسيتا بحلب (751هـ/1350م)، ونقش جامع كفر حمرة بحلب (762هـ/1361م)، وقام بتصحيح عدد كبير من أغلاط المستشرقين في قراءة النقوش مثل نقش وقفية خان السبيل (773هـ/71-1372م)، نقش وقفية جامع التوريزي (823هـ/1420م)، وجامع يلبغا وتربة الأمير تنك الحسني ووقفية جامع القرمشي بدمشق (830هـ/1417م) وغيرها الكثير.

الظواهر اللغوية

للدراسة أهمية خاصة كونها تتناول آثار المماليك في سوريا وترصدها قبل الدمار والخراب والتهدم الذي جرى عليها في الحرب الأهلية التي دارت رحاها في السنوات الماضية، وكان من نتائجها أحداث جسام وخطوب هائلة نالت البشر والحجر وكل شيء، على رغم ذلك فمن حسن الحظ أن الأصول العلمية واللوحات التوضيحية لهذا الكتاب جمعت قبل الحرب، وبالتالي فهو يضم أصولا كثيرة لما أصاب الآثار السورية من خراب ودمار، وبه تفريغات عديدة للوحات التأسيس والوقف والآيات القرآنية، تصلح أن تكون أساسا لعمليات الترميم.

وضرب الحسيني نموذجا خصبا من هذه النقوش وهي نقوش سلاطين حماة الأيوبيين الذين استمروا في حكم نيابة حماة تحت سلطة المماليك، وهي حالة فريدة في التاريخ الإسلامي، وهي أن يكون للسلطان المملوكي واليا من ولاته من يلقب بالسلطان، والسلطان المملوكي يوليه ويعزله، ولهذا الوالي من الحقوق والأبهة والخطبة والإقطاعات وإصدار المراسيم شأنه شأن السلاطين الحقيقيين، ويلقب بالألقاب السلطاينة ويدعى له بمثل ما يدعى للسلطان مثل: السلطان الملك فلان بن فلان صاحب حماة خلد الله ملكه، دون تعارض مع السلطان المملوكي الفعلي في القاهرة.

كما عرض بعض الظواهر اللغوية التي ترد في النقوش وهي من سمات النقوش مثل قصر الممدود ومد المقصور وحذف الألف الوسطى من بعض الكلمات، وظاهرة إقلاب بعض الحروف وتصحيفها أو تحريفها، بعد ذلك تطرق الباحث لموضوع الألقاب وطريقة صياغتها والبروتوكول الذي يحكم تسلسلها وزيادتها أو اختصارها والأدعية التي تلحق بالأسماء وعلاقتها بالوظيفة والسلطة.

يشار إلى أن الباب الأول من الدراسة استقل بالنقوش على العمائر الدينية وقسم إلى ثلاثة فصول الأول موضوعه النقوش الكتابية في الجوامع والمساجد في دمشق وحلب وغيرها من المدن، ففي دمشق مثلا نجد نقوش الجامع الأموي بالفسيفساء وعلى الأبواب البرونزية وعلى مئذنة قايتباي، وفي جامع تنكز، وجامع الذبان وجامع يلبغا وجامع البريدي والجامع الجديد بالصالحية وجامع الجوزة ووقفية جامع القرمشي الموجود بحي سوق ساروجا (830هـ/1417م)، ونجد نقش تأسيس ووقفية جامع التوريزي (823هـ/1420م) التي تعتبر أطول وأكبر كتابة تاريخية في العالم الإسلامي فهي تشمل أغلب المداميك ذات اللون الأبيض داخل الجامع ثم أكملت على واجهة الجامع، ويستمر الباحث في ذكر نقوش عمائر دمشق فيعرض لنقش مئذنة جامع هشام ونقوش جامع السقيفة (869هـ/1465م) المشهور بحامع الثقفي والموجود خارج باب توما.

ثم يذكر نقوش المساجد والجوامع في مدينة حلب مثل نقوش الجامع الكبير وهي كثيرة ومتنوعة، ونقوش جامع الطنبغا (718هـ/1317م) وجامع الصفي وجامع منكلي بغا الشمسي المشهور بجامع الرومي (769هـ/1367م) وجامع الابن وجامع الصوي وجامع بانقوسا وجامع قارلوق وجامع تغري بردي المعروف بجامع الموازيني (799هـ/1397م) وجامع الأطروش في تأسيسة (801هـ/1399م) وإكماله (811هـ/1409م) ونقوش جامع التوبة وجامع شرف في حي الجديدة وغيرها من المساجد والجوامع، ثم ذكر نقوش مدينة حماة الموجودة بالجامع الكبير وبجامع الحيات وبالجامع النوري وبجامع دنوك ومقام النبي حام.

ثم جاء الدور على نقوش جوامع مدينة جبلة كالتي في الجامع المنصوري وفي مقام إبراهيم بن أدهم وهي نقوش كثيرة ومتنوعة، وكنقوش مدينة اللاذقية في جامعها الكبير وكنقوش متفرقة في سوريا كنقوش جامع جوسية وهي مدينة خربة نحو بحيرة حمص، وجامع مدينة قاره من عهد الظاهر بيبرس، وجامع الفضائل بحمص وجامع مدينة حصن الأكراد ومسجد الشيخ عبدالكريم بسرمين وجامع النبي داهود بمصياف.

أما الفصل الثاني فقد استقل بدراسة للنقوش الكتابية في منشآت التعليم ومنشآت التصوف، مثل نقوش المدرسة الظاهرية بدمشق وقفية عصر الإنشاء وتكملة المدرسة على يد المنصور قلاوون، ونقش تجديد دار الحديث الأشرفية وتأسيس المدرسة التنكزية المعروفة بالمدرسة الكاملية (739هـ/1339م)، ودار الحديث الإخنائية جوار الجامع الأموي ودار القرآن الخيضرية ودار القرآن الصابونية، وأما في حلب فنقوش المدرسة الصاحبية المعروفة بجامع الفستق والمدرسة والسفاحية (828هـ/1421م) ودار الحديث السهيلية، ونقوش خانقاوات دمشق وخانقاوات حلب وحصن الأكراد.

واستقل الفصل الثالث بالنقوش الكتابية في الترب والمشاهد، في دمشق وحلب حماة وحمص وحصن الأكراد. أما الباب الثاني المخصص للعمارة المدنية فقسمه الباحث إلى ثلاثة فصول كالتالي: الفصل الأول موضوعه النقوش الكتابية على البيمارستانات والخانات والطواحين والأسبلة والنواعير والجسور.

المصدر: العرب اللندنية