مدى الثقافي/ زيد خلدون جميل *:
تعتبر مقولة «حتى أنت يا بروتوس؟» أشهر جملة قيلت في عالم المسرح العالمي. ولم يكن من قالها سوى يوليوس قيصر ملك روما غير المتوج وهو ينظر إلى صديقه العزيز، الذي كان يحمل السكين، وعلى وشك أن يطعنه في مشهد خالد من مسرحية «يوليوس قيصر» للكاتب المسرحي البريطاني وليم شكسبير. وإذا كانت أعمال شكسبير، تعتبر أعظم الأعمال المسرحية على الإطلاق، فإن مسرحية «يوليوس قيصر» تعتبر إحدى أشهر أعماله. ولذلك فإن هذه المسرحية هي أحد اكثر المسرحيات عرضا على خشبة المسرح، وأصبحت مادة دسمة لشركات السينما، حيث تم إنتاج العديد من الأفلام السينمائية المقتبسة من المسرحية، بدرجات مختلفة. وقد يكون أفضل فيلم عن المسرحية فيلم «يوليوس قيصر»، الذي أنتج عام 1970 وضم أشهر أسماء عالمي المسرح والسينما مثل جون جلجود في دور «يوليوس قيصر»، وشارلتون هيستون في دور «مارك أنطونيو»، وجيسون روبردز في دور «بروتوس».
> أحداث الفيلم
يبدأ الفيلم بالاحتفالات الشعبية في شوارع روما، بعودة «يوليوس قيصر» بعد أن انتصر على منافسه، القائد العسكري «بومبي»، ليصبح حاكم الدولة الرومانية الأوحد والمطلق، لاسيما وأن مجلس الشيوخ الروماني عينه «ديكتاتورا أبديا»، وهذا يعني أن قيصر أصبح حاكم الدولة الرومانية من الناحيتين العملية والرسمية. ولكن «قيصر» هذا لم يدرك أن هذا المظهر كان يعطيه إحساسا كاذبا بالاطمئنان، حيث لم تكن الأمور تجري كما كان يريد، فمؤامرة ضده كانت تحاك في الخفاء، من قبل بعض أعضاء مجلس الشيوخ. وازدادت هذه المؤامرة خطورة عندما نجح عضو مجلس الشيوخ «كاسيوس» في ضم العضو «بروتوس»، الذي كان أحد أكثر المقربين من «قيصر». وكانت حجة «كاسيوس» أن طموح «قيصر» المتعاظم يحوله تدريجيا إلى طاغية، ولن تكون هناك أي حدود لطموحاته الشخصية، ما يهدد حرية المواطنين الرومان ونظام الدولة الجمهوري.
وتنتاب زوجة «قيصر» كوابيس مرعبة، يظهر فيها تمثال لقيصر والدماء تنزف منه بغزارة، ما يجعلها تقفز من الفراش في حالة فزع. وكذلك تحذير أحد العرافين لقيصر من يوم الخامس عشر من مارس/آذار، وهو تاريخ اجتماع «قيصر» بأعضاء مجلس الشيوخ الذي أثار سخرية «قيصر». وفي ذلك اليوم سار «قيصر» محاطا بحاشيته في شوارع روما في طريقه إلى مجلس الشيوخ، ورأى ذلك العراف، فبادر «قيصر» العراف بقوله «ها هو الخامس عشر من مارس، ولم يحدث شيء»، فأجابه العراف «صحيح، ولكنه لم ينته بعد». ووصل «قيصر» قاعة المجلس مزهوا بنفسه، معتقدا أنه يسيطر على كل ما يحدث في البلاد، ولذلك دخل القاعة بدون حرس أو مرافقين، فلن يجرؤ أحد على المساس به، وإلا الويل له. وما أن دخل «قيصر» القاعة وجلس على الكرسي المخصص له بمواجهة المجلس، حتى وجد نفسه في جدال أثار استغرابه، مع مجموعة من أعضاء المجلس، الذين دخلوا في نقاش سخيف معه. ولم يلاحظ «قيصر» أن أحدهم كان يتسلل خلفه أثناء انشغاله في ذلك النقاش العقيم، وإذا بطعنة تفاجئه في ظهره. نهض «قيصر» فزعا ولكن الطعنات أخذت تنهال عليه من مختلف الجهات، وحاول الفرار منهم متوجها نحو صديقه «بروتوس» وقد شلته صدمة الدهشة لعدم محاولة «بروتوس» الدفاع عنه. ولكن صدمته كانت لا توصف عندما تلقى طعنة من ذلك الصديق المقرب، وعندئذ قال «قيصر» بصوت متحشرج «حتى أنت يا بروتوس؟ «إذن مت يا قيصر»، فطعنة الصديق تعادل ألف طعنة. وخرّ «قيصر» صريعا والخناجر تنهال عليه من كل جانب. وفي هذه الأثناء هرع بقية أعضاء المجلس إلى الخارج مذعورين، وسرعان ما وجد المتآمرون أنفسهم وحيدين في مبنى المجلس، فأخذوا يتباحثون في ما عساهم يفعلون، وقد تم القضاء على «قيصر». ولكن نقاشهم لم يدُم حيث حضر «مارك أنطونيو»، أحد أقرب الناس إلى «قيصر»، ولاحظ ما حدث وأنه محاط بهم، فتفاوض معهم وقرروا أن يقوم «انطونيو» بدفن «قيصر» بعد أن يلقي «بروتوس» خطابا على سكان روما في مركز المدينة ويليه خطاب من «أنطونيو» على ألا يكون خطابه هذا ضد المتآمرين. وبالفعل ألقى «بروتوس» خطابه، موضحا أنه كان يكن كل الحب والاحترام لقيصر، ولكن طموح «قيصر» الجامح، وتحوله إلى طاغية جعله يشترك مع المتآمرين في قتله لتحرير روما منه، ولذلك فإن القتلة في الحقيقة «محررين». ولكن المفأجاة كانت تكمن في خطاب «أنطونيو» الذي ناقض كل ما جاء في خطاب «بروتوس»، حيث ذكر تضحـــيات «قيصر» من أجل روما وتواضعه، وأنه أوصى بوهب أملاكه للشعب الروماني. وهاجت الجماهير عند سماعها مآثر «قيصر» وسيطرت عليها رغبة جنونية للانتقام من القتلة. واكتشف المتآمرون القتلة، أن التيار انقلب ضدهم، فقرروا الفرار من روما.
وكانت خطوة «أنطونيو» الأولى هي الاتفاق مع «أوكتافيوس»، ابن «قيصر» بالتبني، لتأسيس تحالف لمحاربة المت’مرين. أما المتآمرون أنفسهم، فإنهم جمعوا قواتهم لمحاربة حلف «أنطونيو» و»أوكتافيوس»، ولكن اليأس كان يسيطر عليهم، وأخذت تنتابهم رؤى يظهر لهم فيها شبح «قيصر» متوعدا بمصير رهيب. ويلتقي الطرفان في معركة «فيليباي» الحاسمة، وما أن وجد المتآمرون أن قواتهم تنهار أمام هجمات خصومهم حتى انتحر «بروتوس» و»كاسيوس». وبذلك يحسم «أنطونيو» و»أوكتافيوس» ذلك الصراع لمصلحتهم. وهنا ينتهي الفيلم.
> ملاحظات عن الفيلم
كان الفيلم أقرب إلى المسرحية منه إلى فيلم تقليدي، ولم يهتم المخرج أن يكون الممثلون مثل شارلتون هيستون وجيسون روبردس، بدوا أكبر سنا من الشخصين اللذين مثلا دوريهما. وأما «قيصر» (جون جيلجود) نفسه، فقد بدا طاعنا في السن، بينما كان «قيصر» في الخامسة والخمسين عندما اغتيل، ولذلك لم يكن طاعنا في السن كما ظهر في الفيلم.
كانت مشاهد المعارك الحربية خالية من عوامل الإثارة التي تعتمد عليها السينما الأمريكية ولم يكن إخراجها جيدا. وكان من علامات الفيلم العراف الذي تنبأ بالمؤامرة، والكوابيس التي انتابت زوجة «قيصر» وشبح «قيصر» الذي كان يظهر للمتآمرين، وكان هذا من ميزات مسرحيات شكسبير، حيث نرى أشباحا وعرافين أو مجانين، يكشفون عن الحقائق دائما في مسرحياته.
لم يكن شكسبير أكبر الكتاب المسرحيين في عصره، ولكن شهرته ومرتبته نمتا مع نمو الامبراطورية البريطانية، التي امتلكت كذلك أكبر امبراطورية إعلامية عرفها العالم الحديث، ونشرت مظاهر الثقافة البريطانية في جميع أنحاء العالم، فتحول فن المسرح وشكسبير إلى أساطير لا تتكرر في الثقافة العالمية. ومع بروز شكسبير، برزت مسرحية وشخصية «يوليوس قيصر» التي اعتبر كل ممثل، أن الاشتراك فيها خير دليل على مهارته. وكان شكسبير قد اقتبس جميع مسرحياته من أعمال سابقة، ولم تكن مسرحية «يوليوس قيصر» استثناء، وكل ما فعله هو كتابتها بأسلوب مسرحي، وأضاف إليها بعض المبالغات بعد أن وجدها في كتابات أحد المؤرخين الرومان، إذ لم يقل «قيصر» تلك العبارة «حتى أنت يا بروتوس» الخالدة، بل إنه على الأغلب لم يقل شيئا عند تلقيه الطعنات، التي على الأغلب قتلته على الفور، حيث طُعِنَ ثلاثا وعشرين مرة. وتحول المسرح والسينما إلى مراجع التاريخ بالنسبة للمشاهدين، فبسبب شكسبير يعتقد القراء، أن التحالف المؤيد لقيصر ضم «أنطونيو» و»أوكتافيوس» فحسب، بينما الحقيقة هي أنه ضم شخصا ثالثا يدعى «لبيدوس». واعتمد الفيلم على مشهد الخطاب الذي ألقاه «أنطونيو» في مركز المدينة، ولذلك كانت الاستعانة بالممثل الأمريكي شارلتون هيستون مناسبا، حيث عُرِف بصوته المؤثرن ولكن الفيلم أعطى الانطباع أن صوت «أنطونيو» كان قويا، إلى درجة أن كل من كان في مركز المدينة سمعه جيدا، وكأنه كان معادلا لمنظومة متكاملة من مكبرات الصوت. وأما ألوان الملابس، فقد كانت من اختلاق طاقم إنتاج الفيلم، حيث لا يملك المؤرخون أي معلومات عن ألوان ملابس الرومان. وقد تحول اسم «قيصر» إلى لقب حمله كل امبراطور روماني بعده. واستمر هذا التقليد حتى عام 1453 عندما احتل محمد الفاتح القسطنطينية منهيا الامبراطورية الرومانية البيزنطية. وعندما قال الشاعر العربي امرؤ القيس البيت الشهير
بكى صاحبي لمّا رأى الدَرب دونه
وأيقن أنّا لاحقان بقيصرا
فإن امرؤ القيس كان يقصد بكلمة «قيصرا» الامبراطور الروماني البيزنطي حينذاك. وانتقل اللقب إلى لغات أوروبية مختلفة، حيث أصبح لقب ملوك المانيا وروسيا. ولذلك استمر استعمال اسم «قيصر» ككلمة تعني الامبراطور، أو الملك لألفي عام بعد اغتيال «يوليوس قيصر» عام 44 قبل الميلاد، على الرغم من أن «قيصر» نفسه لم يكن ملكا، وأن «قيصر» كان مجرد اسم له. وأما اسم «بروتوس»، فقد أصبح مقرونا بالخيانة والغدر في عالمي السياسة والأدب. وليس هذا غريبا، إذ أن تأثير الدولة الرومانية القديمة على الحضارة الغربية كان هائلا، حيث ظهرت الامبراطورية الرومانية المقدسة، واقتبست الكثير من الكلمات والقواعد النحوية من قبل اللغات الأوروبية. ولا نزال نرى الطراز المعماري الروماني واضح المعالم في الكثير من المباني المهمة الحالية مثل البيت الأبيض الأمريكي وبناية مجلسي الشيوخ والنواب الواقعة في منطقة أخِذ اسمها من اسم منطقة في روما القديمة، والأمثلة كثيرة جدا. ولا تزال الأبنية الرائعة التي بناها الرومان خير دليل على عظمتهم في الهندسة المعمارية.
> المؤامرة
كان عدد المتآمرين على «قيصر» حوالي الستين، وكانوا جميعا أعداء سابقين له، عندما كانوا قادة لدى خصمه «بومبي»، حيث كان «قيصر» قد أصدر عفوا عاما عنهم فور انتصاره على «بومبي»، ولذلك قام «أنطونيو» و»أوكتافيوس» بقتل كل من كان ضد «قيصر»، وكان منهم السياسي والفيلسوف الروماني الشهير «شيشرون».
لقد كان سبب اغتيال «يوليوس قيصر» على الأغلب هو صراع عادي على السلطة، وليس حول حماية الحريات، فقد كان «قيصر» يعين أعضاء مجلس الشيوخ، ويزداد قوة كل يوم، ما أثار خوف أعدائه على مصالحهم. ومن الجدير بالذكر أن «بروتوس» و»كاسيوس» كانا من قادة القائد الروماني «بومبي» الذي كان غريم «قيصر»، ولم يقلّ عنه غرورا أو استبدادا. ولم يكن «يوليوس قيصر» شخصا متواضعا، حيث أعلن نفسه إلها وأسس طائفة دينية مخصصة له، وعين مساعده «أنطونيو» رئيسا للكهنة فيها، وبقيت هذه الطائفة كدين رسمي للدولة الرومانية حتى القرن الرابع الميلادي، عندما أصبحت المسيحية الدين الرسمي للدولة. ومن الجدير بالذكر أن «قيصر» قام بإصلاحات واسعة ومهمة لتطوير إدارة الامبراطورية، تدل على نضج تفكيره وخبرته، ومنها التقويم الشمسي والسنة الكبيسة، وحرص «قيصر» على أن يتذكر الجميع ذلك، حيث اطلق اسمه على شهر يوليو/تموز. ويعتبر البعض أن اغتيال «يوليوس قيصر» أخطر اغتيال في التاريخ، لأنه حوّل نظام الدولة من «جمهوري» إلى «امبراطوري» في أقوى امبراطورية في العالم آنذاك، حيث أصبح خلفه «أوكتافيوس» امبراطورا، ولكن هذا لم يكن صحيحا لأن «قيصر» كان من الناحية العملية ملكا مطلقا، وأن الوضع السياسي كان يتطور أصلا باتجاه تأسيس امبراطورية، ولذلك فإن ذلك الاغتيال لم يكن نقطة تحول في التاريخ.
٭ باحث ومؤرخ من العراق (القدس العربي)