مقالات


الجمعة - 18 يونيو 2021 - الساعة 07:14 م

الكاتب: يحيى الحمادي - ارشيف الكاتب



هل سمعتم بالتّخاطُر، والتّوحّد الشّعوري بين التّوائم، ومدى الفراغ الهائل الذي يَتركه فراقُ أحدهما في قلب الآخر،
حيث يبلغ الفقدُ به مبلغًا يكاد يقضي عليه، وبمجرّد التقاء العين بالعين، والكفّ بالكفّ، ينجلي كل شيء؛ هل رأى أحدُكُم أحدَ هؤلاء التوائم يصحو فزِعًا مذعورًا لأنه رأى في منامِهِ شقيقَه في خطر، وحين يتّصل به ليطمئِنَّ عليه يرد الشرطي قائلًا: لا تقلق.. هو الآن على العَرَبَةِ جوار سيارة الإسعاف!.

هل أحدّثكم عن الفَقد أكثر؟
هل تعلمون بالأُلفة والصّداقة التي تشعر بها أطرافُكُم وأجزاءُ أجسادِكم تجاه بعضِها، هل تحسّون باحتشاد الدّماغ لنداءٍ قادم من المعدة، واضطرابِ القلب لخللٍ في الرّأس، وارتعاش السّاقَين لمَشهدٍ تراه العَين، هل شعرتم يومًا بأرواحكم الخفية تدبّ على أجسادكم؟ في طرفة عين.. أو خفقة قلب.. هل شعر أحدكم أنّ كل جزء من جسمِه الكبير الصغير هذا، يحس بالجزء الآخر، ويتشارك معه، ويفتقده في حال غيابه، أو خروجه عن الخدمة؛ أنتم لو فقدتم عَينًا فستشعرون أن هذا الجسمَ كله ليس سوى عَين، ولو فقدتم ساقًا لأدركتم أن هذا الجسدَ دون ساقٍ ليس سوى جنازة، ولو فقدتم يدًا لأيقنتم أنكم فقدتم الجسدَ كلّه..
هكذا يُصبح للجزء المفقودِ صيغة الكلِّ الفاقد..

هل أحدثكم عن الفقد أكثر وأكثر؟
يقول ماركيز: (إن المَبتُورين يُحسّون آلَامًا وخَدَرًا ودغدغةً في أرجلِهم التى ما عادوا يمتلكونها).
وأنا عرفتُ أحد النجّارِين قبل أعوام، كان يَعمل على الآلةِ الكهربائية للنجارة، وكنتُ أنا في الطرف الآخر على آلة النَّحت، فجأةً رأيتُ ومضةً حمراء تنبعث من ناحيته.. تَبِعَتها صَرخَتُهُ.. هُرِعتُ أنا ومعي اثنان كانا جواري نحوه.. لقد انقطعت إصبعه.. رأينا كيف سقطت إلى الأرض ثم نَطَّت -بما تبقى بها من روح- نَطَّت نَطَّةً واحدة في الهواء.. ثم لم نَعلم أين استقرّت.. لقد بحثنا في كل زاوية وجهة، ولم نجدها، وكنا نرغب بالعثور عليها لإعادتها -ولو بطريقة شكلية عن طريق الجراحة- إلى مكانها، ولكنها كانت قد اختفت وحسب، وفي اليوم التالي جاء بها الأطفال من فِناء البيت المجاور، وقد اسوَدّ لونُها وتيبّست.. ومنذ أعوام.. ما مِن مرّة جلستُ فيها مع هذا النجّار إلّا ووَجدتُه يحاول أن يُمسك بيده الأخرى إصبعه المفقود.. ولكنه يقبض على هواء.. سألته مرّةً ما الأمر؟ قال لا شيء.. فقط كأنّ جسمي يشعر بفقدٍ في هذا المكان، يحاول التأكد.. ثم يحاول.. ثم يحاول.. ولم يقتنع بعد أن هذا المكان أصبح مهجورًا..

سأحدثكم عن الفقد كثيرًا وكثيرا.. لكن ما الفائدة؟!
لن تفهموا شيئًا..
أنتم لم تفقدوا أصابعكم ولا أوطانكم بعد..

▪صفحة الكاتب على الفيس بوك