منوعات

الإثنين - 13 سبتمبر 2021 - الساعة 12:20 ص بتوقيت اليمن ،،،

مدى برس/ متابعات:

خضع الفن المصري وبشكل خاص السينما والدراما على نحو كبير إلى توجهات الأنظمة السياسية المتعاقبة، لكن هناك متغيرات وفروقات في طريقة توظيف الفن في خدمة المشروع السياسي لكل نظام، ما يطرح أسئلة عديدة حول مدى نجاح الفن في تلبية رغبة السلطة الحالية في مصر في تكريس مشروعها الوطني ورؤاها.

أوحت أحاديث وتصريحات ومداخلات الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي في موضوعات متعلقة بالفن والثقافة عموما بأن هناك غصة جراء عدم قدرة القوى الناعمة على توصيل رؤيته للمواطنين عبر الأعمال الدرامية والسينمائية والمسرحية، وخلال إحدى المرات في احتفالات عيد الشرطة وجه حديثه إلى الفنانيْن أحمد السقا ويسرا قائلًا “والله هتتحاسبوا على اللي بتعملوه”، في إشارة إلى عدم اضطلاع الفن بدوره التوعوي.

وبرهن الدعم الذي قدمه الرئيس السيسي مؤخرا للكاتب والمؤلف عبدالرحيم كمال، حيث أشاد بحرصه على تقديم نوع من الفن الجاد المقاوم لمحاولات تزييف الوعي، على أن هناك طموحات كبيرة ليقوم الفن بأدوار لم يتطرق إليها بعد ترتبط بتجديد الخطاب الديني ونشر فنون تسهم بإيجابية أكبر في معركة التنوير.

وحملت كلمات الرئيس المصري إشارات بأن الخطوات التي دفعت نحو توجيه دفة اهتمامات الدراما إلى مواجهة الإرهاب وتعريف المواطنين بأبعاده الداخلية والخارجية عبر مسلسلات “كلبش” و”الاختيار” و”هجمة مرتدة”، وأفلام مثل “الممر” و”العراف” ليست كافية، ما يعني أن هناك موجة جديدة من الأعمال الفنية قد ترى النور قريبا.

استدعاء فني وفروق سياسية
التعامل الحالي مع الفن بنفس الأدوات والأساليب التي استخدمتها الأنظمة السابقة لن يقود إلى تحقيق أغراض الدولة

يعلم النظام المصري الكثير عن تفاصيل التجارب السابقة التي حقق فيها الفن المصري نجاحات مهمة على مستوى دعم المشروع الوطني في عهدي الرئيسين الراحلين جمال عبدالناصر ومن بعده أنور السادات.

ويوحي النظام المصري بأنه يريد السير على الخط نفسه الذي رسمته ثورة يوليو 1952، حيث أكد مبكرا أول رئيس مصري بعد انتهاء الملكية وهو اللواء محمد نجيب على أهمية أن تلعب السينما دورا في تشكيل الوعي للمواطن عبر بيان أصدره بعنوان “الفن الذي نريده”، واعتبره “وسيلة للتثقيف كما هي للترفيه، وإذا أسيء استخدامها سنهوى إلى الحضيض، وندفع بالشباب إلى التهلكة”.

ولا تختلف هذه النوعية من الكلمات عن التعبيرات التي استخدمها السيسي في لقاءاته مع الفنانين قبل وصوله إلى الحكم، إذ أكد على أهمية أن تكون هناك أفلام ومواد درامية عن التحديات التي واجهتها مصر، وطالب بكتابة التاريخ والواقع بكل دقة وعناية، حتى لا يأتي أحد ليزيف هذا التاريخ.

وكان المسرح في حقبة الستينات من القرن الماضي التي شهدت فترة توهج الثقافة المصرية، متوهجا وكان وسيلة الدعاية الأولى، وتأثر كتاب المسرح المصري بالمناخ الثوري واقتناعهم بأهداف الثورة، وظهر في ذلك الحين كتاب مسرح نجحوا في استلهام الواقع وربط الفكر بالحياة، والتوغل في معترك الأحداث من بينهم توفيق الحكيم، نعمان عاشور، ألفريد فرج، سعدالدين وهبة ولطفي الخولي.

تجسيد فكرة البطل صاحب السمات المعبرة عن النظام

ووظفت السينما في تلك الفترة إمكانياتها لخدمة النظام الحاكم عبر انتقاد الماضي وتسليط الضوء على فساد النظام الملكي مثل فيلم “رد قلبي” والإعلاء من شأن النظام الجديد القادر على إزالة الفوارق بين الطبقات الاجتماعية.

وجسدت الكثير من الأعمال في تلك الفترة فكرة البطل صاحب السمات المعبرة عن النظام وقوته وأسهمت في تجييش الجماهير تجاه شعارات ثورة يوليو عبر أفلام “القاهرة 30″ و”في بيتنا رجل” و”الباب المفتوح” و”الأيدي الناعمة”.

ومضى الفن في عهد الرئيس السادات في طرق عديدة، أولها مرحلة ما قبل حرب أكتوبر 1973 ولعبت فيها السينما نفس الأدوار التي قامت بها في عهد عبدالناصر واستمرت في تناول الجوانب السياسية من خلال انتقاد النظام السابق، وتطرقت لقضايا الاستبداد السياسي والقمع الذي تعرض له كثيرون، وهو ما كشفه فيلم “الكرنك”.

وثانيها مرحلة حرب أكتوبر، وكانت أغلب التوجهات تميل نحو الالتفاف حول أهمية الانتماء للوطن وضرورة الانتصار على العدو، وصورت الأفلام في ذلك الحين معاناة الجيش المصري مثلما حدث في فيلم “الرصاصة لا تزال في جيبي”، وفيلم “العمر لحظة”، قبل أن يدشن الانفتاح الاقتصادي والانتقال من الاشتراكية إلى الرأسمالية المرحلة الفنية الثالثة والتي وجهت فيها الكثير من الأعمال ضربات إلى القطاعات التي عارضت هذه التوجهات ونشر فسادها دون أن تعبر عن رؤية الدولة للانفتاح.

ويقول الناقد الفني أحمد سعدالدين إن فرض الدولة قبضتها على الفن في فترة الستينات والسبعينات أكد أن ثمة أعمالا كثيرة تخدم السلطة السياسية وتحمل قدراً كبيراً من الرقي الفني والتثقيف والتنوير الذي اختفى مع ظهور أفلام المقاولات في ثمانينات القرن الماضي، وأن حرص كل نظام على تطويع الفن لصالحه جعله أكثر دعمًا للقوى الناعمة التي قادت الرأي العام في ذلك الوقت، وهو ما دفع الرئيس السادات للاحتفاء بعيد الفن الذي جرى إلغاؤه في فترة الرئيس الراحل حسني مبارك.

تجييش الجماهير تجاه شعارات ثورة يوليو

ويضيف في تصريح لـ”العرب” أن استمرار هيمنة الدولة على التلفزيون سمح بإنتاج أعمال درامية ناجحة مثل “ليالي الحلمية” و”المال والبنون” و”رأفت الهجان”، وجميعها دعمت توجه الدولة نحو الحفاظ على وحدة النسيج المجتمعي، وتعزيز قدرتها على صنع النجاحات والإنجازات العسكرية والاستفادة من حالة الانتشاء التي سيطرت على المجتمع بعد الانتصار في حرب أكتوبر.

ويلفت سعدالدين إلى أن قدرة الأنظمة على تطويع الفن لصالحها ارتبطت بوجود أعمال قوية وجادة بجانب المحتويات التي ركزت على الأبعاد السياسية، وأن النجاحات التراكمية التي تحققت منذ فترة الخمسينات وحتى الثمانينات كان لها دور فاعل في خدمة المشروعات الوطنية، لكن الوضع أخذ في التراجع مع انحدار الأعمال المقدمة وارتباطها بعوامل المكسب والخسارة.

وقد زاد الجمود الفني وظهرت معالمه في جزء كبير من الأعمال التي قدمت خلال فترة حكم الرئيس الراحل حسني مبارك والتي امتدت ثلاثة عقود، وبدأ النظام يروج لأفكاره بمجموعة من الأفلام التي تتناول مساوئ نظام السادات مثلما حدث في فيلم “المواطن المصري” الذي حاول الإجابة على تساؤلات حرب أكتوبر التي كانت ترد في ذهن المواطنين إلى أن ظهر نوع من السينما المعارضة مطلع الألفية، غير أنها ظلت بعيدة عن رأس النظام.

وانتهت هذه المرحلة بتنبؤ عدد من الأعمال الفنية بانفجار ثورة شعبية نتيجة تردي الأوضاع الأمنية وغياب العدالة الاجتماعية وتعرض المواطنين لظلم متعدد الوجوه والأشكال، وتجسدت في أفلام “هي فوضى” و”حين ميسرة”، لكن حالة السيولة التي سيطرت على الدولة في ذلك الحين خلقت فوضى أثرت على مسارات الفن، وخرجت أعمال ضعيفة المستوى تحدثت عن ثورة يناير 2011 دون أن تلقى قبولا كبيرا، مثل فيلم “أمن دولت” و”فبراير الأسود” و”صرخة نملة” و”18 يوم”.

الهيمنة على الفن

تبذل الحكومات المتعاقبة جهودا لإعادة الهيمنة السابقة على الأعمال الفنية بطرق وأساليب وأدوات مختلفة إلى أن استطاع النظام المصري توجيه البوصلة نحو الأعمال التي تبرهن على نجاحاته الأمنية في مواجهة العمليات الإرهابية التي تعرضت لها الدولة، ودفع باتجاه ترسيخ تورط تنظيم الإخوان في تلك العمليات باعتباره الطرف الأكثر تهديداً للمجتمع، وحتى مع انحسار وجوده في الداخل لم تتوقف الأعمال التي تكشف الكثير من المستور عن الدور الخطير الذي يلعبه هذا التنظيم.

ويوضح الناقد الفني سمير الجمل أن الأعمال الفنية الحالية لم تستطع حتى الآن خلق حالة كبيرة من الحشد الشعبي حول السلطة ولم تستطع التعبير عن توجهات النظام المصري حول البناء والتعمير في كافة المجالات بعكس توجيه الفن نحو دعم بناء السد العالي في عهد عبدالناصر، أو تقديم أعمال تاريخية تمنح الأمل للأجيال الحالية في المستقبل مثل “صلاح الدين الأيوبي”.

ويذكر في تصريح لـ”العرب” أن سيطرة الأجهزة الحكومية على الإنتاج الدرامي لم تحقق المرجو منه، فلم يتم الاعتماد على كثير من المبدعين الذين لديهم القدرة على تقديم أعمال تبرز دور الدولة، ويرفضون أي تدخلات واسعة تؤدي إلى تشويه العمل.

ويشدد الجمل على أن القائمين على إنتاج الدراما لم يقوموا بإعادة صياغة الواقع بما يخدم رؤية الدولة وخططها الاستراتيجية، وبالتالي تتعدد الانتقادات التي يتعرض لها الفنانون، وليس هناك أعمال قادرة على مجاراة فيلم “باب الحديد” من إخراج يوسف شاهين والذي أُنتج في الستينات، حيث جعل محطة قطار رمسيس الرئيسية بمصر على شكلها القديم محفورة في أذهان المواطنين.

غياب الفكر والثقافة
"باب الحديد" أكثر الأفلام تأثيرا
ترتبط المطبات التي تصطدم بها السلطة الحالية بجملة من التغيرات المحيطة بها والتي اختلفت عن بيئة الأنظمة السابقة، على رأسها عدم وجود منافسة قوية للفن المصري في ذلك الوقت، حيث سيطرت الحكومة على منافذ الإنتاج في الستينات، إلى جانب حالة الانغلاق التي ساهمت في تقديم رسائل تقبلها الجمهور واقتنع بها من دون انتقادات بخلاف ما يحدث في الوقت الراهن.

ويغيب حاليا دور وزارة الثقافة ورموزها المؤثرة التي قادت حركة التثقيف والتنوير في الستينات، إذ أعطت نشأة وزارة الثقافة على يد الدكتور ثروت عكاشة دفعة قوية لكافة أشكال الفنون والآداب، فضلا عن الدور الحيوي الذي لعبه مجلس الفنون والآداب، ومصلحة الفنون التي ترأسها الأديب يحيى حقي لحفظ التراث الشعبي.

انتقاد الماضي وتسليط الضوء على فساد النظام الملكي

ويتطرق الناقد الفني سمير الجمل في حديثه لـ”العرب” إلى بعد آخر يرتبط بغلبة طابع الهزل على القضايا التي تناقشها الأعمال الفنية في الوقت الحالي، بما لا يتيح القدرة على نجاح الأعمال السياسية في ظل تعامل الجهات القائمة على إنتاج الأعمال مع حوادث العنف والبلطجة وإعادة تجسيدها عبر الأفلام والمسلسلات باعتبارها الأكثر قدرة على جذب الجمهور، ما يشير إلى وجود حالة من حالات غياب الفكر والثقافة التي تستطيع أن تقود الحركة الفنية وتوجهها في اتجاهها السليم.

وتريد الجهات المشرفة على الإنتاج الفني تحقيق نجاحات الستينات في خدمة النظام الحاكم بلا مراعاة حقيقية للفوارق الزمنية والتحديات والأهداف، وهو ما يجعل تقديم أعمال معبرة عن السلطة تتسم بقدر عال من الدعاية السياسية.

وتحذر الناقدة الفنية فايزة الهنداوي في تصريح لـ”العرب” من أن التعامل مع الفن بنفس الأدوات والأساليب التي استخدمتها الأنظمة السابقة لن يقود إلى تحقيق أغراض الدولة، ففي ظل حالة الانفتاح لن يكون كافيًا إنتاج أعمال تعبر عن التوجهات السياسية، لكن الأمر بحاجة إلى رؤى يمكن أن تحقق الأهداف ذاتها، فتسهيل عملية تصوير الأفلام الأجنبية في المواقع المصرية أحد أشكال الترويج لمرحلة البناء.

وتقول إن التوجه نحو تقديم أعمال درامية سياسية مباشرة لن يأتي بمردود إيجابي في ظل إدراك المواطنين بأنها أعمال موجهة، وقد يجري التعامل معها على أنها تسويق غير واقعي لنجاحات الدولة، ما يتطلب أن تصاحب ذلك سينما اجتماعية وكوميدية تستطيع مخاطبة عقول المشاهدين عبر دمج السياسة في أحداثها بعيدا عن الإشارات المباشرة، وأن الارتباط بهذه الأعمال يسهم في نشر الوعي ويدعم فعالية تأثير القوى الناعمة في الرأي العام.