فنون

الإثنين - 23 مارس 2020 - الساعة 07:02 م بتوقيت اليمن ،،،

مدى الثقافي/ مروان ياسين الدليمي *:


تعود بنا السينما الأمريكية بين فترة وأخرى إلى موضوعات اجتماعية تشكل العلاقات العائلية بؤرتها المركزية، وهي منطقة أثيرة لدى المتلقي، رغم الإنجازات المختلفة من حيث الشكل والمضمون، التي اقتحمها الإنتاج الأمريكي، ومن خلالها شاهدنا أنماطا من الأفلام نجحت على مستوى شباك التذاكر، وحققت أرقاما قياسية لم تتمكن من منافستها أي نتاجات غير أمريكية، وعادة ما توزعت بين أفلام العنف والجنس والحركة. إلاَّ أننا نبقى على موعد مهم مع أفلام تتخلى عن بيع الأوهام الرخيصة لعشاق السينما، وتكشف بموضوعاتها، وما تطرحه من أفكار، ما يعصف بهم داخل بيوتهم، وأماكن عملهم من علاقات تحركها مشاعر الحب والغيرة والخيانة والإهمال.

وليس أمرأ مفاجئا أن تنافس مثل هذه النوعية، أفلاما من نوعية أخرى تتعكز على النتاجات الضخمة والتقنيات والخدع السينمائية، وتتفوق عليها وتحقق نجاحات كبيرة تصل بها إلى منصة الأوسكار مثل، فيلم «كرامر ضد كرامر» الذي سبق أن نال جائزة أفضل فيلم عام 1979، ومثّل الشخصيتين الرئيستين كل من داستن هوفمان وميرل ستريب، ولا يختلف هذا الفيلم من حيث الموضوع والقصة في أغلب التفاصيل عن فيلمنا الذي نتناوله في هذه القراءة، والذي يحمل عنوان «قصة زواج انتاج 2019، للمؤلف والمخرج نوح بومباخ. الفيلم ترشح ضمن قائمة افضل عشرة افلام لنيل جائزة الاوسكار 2020. ونالت عنه لورا ديرن الجائزة كأفضل ممثلة مساعدة.


> حكاية الفيلم

تضعنا قصة الفيلم أمام علاقة زوجية كانت مبنية على الحب، لكنها انتهت إلى الافتراق، بعد أن قررت نيكول (سكارليت جوهانسن) التي تعمل ممثلة مسرحية الانفصال عن زوجها شارلي (آدم درايفر) الذي يعمل مخرجا مسرحيا ناجحا في نيويورك، وما أن اتخذت قرار الانفصال حتى غادرت مع ابنها هنري البالغ من العمر ثماني سنوات، عائدة إلى لوس أنجلوس، حيث شهدت هذه المدينة ولادتها وبدايتها الناجحة في السينما، قبل أن تتزوج، لكنها فضلت أن تتخلى عن المجد الفني ملبية نداء عواطفها لتسافر برفقة شارلي إلى نيويورك بعد أن تعرفت عليه أثناء حضورها لعرض مسرحي قدمه في لوس أنجلوس، فنشأت بينهما علاقة حب توِّجَت بالزواج، ووافقت على أن تعيش في مدينته نيويورك وتعمل معه في المسرح، وأضفى حضورها الفني وشهرتها نجاحا جماهيريا لفرقته المسرحية.

كان السبب المباشر لقرار نيكول بالانفصال، اكتشافها خيانة شارلي لها مع مديرة المسرح، بعد أن عثرت في ايميلاته على رسائل متبادلة بينهما، تؤكد خيانته، إلاَّ أن أسبابا اخرى غير مباشرة لا تقل أهمية عن الخيانة، كانت قد حطمت وبصمت الكثير من الأمنيات والمشاعر داخل نيكول، خلال مسيرة حياتهما المشتركة، بالتالي مهدت الطريق لإنهاء هذه الشراكة الزوجية.


> السرد الفيلمي

يحاول الباحث الاجتماعي الذي يلجأ إليه الاثنان، أن يفعل شيئا ما علّه يفلح في إعادة العلاقة بينهما، مراهنا بذلك على ما كان يجمعهما من حب وتفاهم كبيرين، فيطلب من كل واحد منهما أن يكتب رسالة يوجهها إلى الآخر يسرد فيها وجهة نظره بشريكه، ومن ثم يقرأها بحضوره، والسرد السينمائي يبدأ من هذه اللحظة، فمع نهاية تيتر البداية تلتقط أسماعنا صوت شارلي فقط وهو يقرأ ما كتبه في رسالته، ويرافق صوته معادل بصري، في غاية الكثافة والايحاء، يجسد كل ما يرد من ملاحظات حول مواقفها وشخصيتها وردود أفعالها، وكلها تشير إلى افتتانه بها، فيقول مثلا إن ما يعجبه بنيكول أنها تُشعِر الناس بالارتياح حتى في الأمور الحرجة، وتعرف كيف تتصرف في ما يتعلق بالأمور العائلية المعقدة، وإذا ما كانت هناك ملاحظات سلبية فإنه يسجلها ضد نفسه، فيعترف بأنه لا يتحلى بالمرونة، بينما هي تعرف جيدا متى تضغط عليه، ومتى تتركه وشأنه. وإنها تؤدي واجبات البيت كلها، كما تحرص على أن تقدم هدايا رائعة لعائلتها، ولا تتهرب من اللعب مع ابنهما. ولا تخجل من أن تقول إنها لا تعرف إذا ما سئلت عن شيء ما، ويختم رسالته مشيدا بها وبقدرتها على تنفيذ أفكاره المسرحية، وأنها ممثلته المفضلة. وما أن ينتهي من رسالته حتى يعقبه صوت الزوجة، لتكشف برسالتها عن إعجابها بزوجها، فتصفه بالشجاع، لأنه لا يسمح لآراء الآخرين في أن تجعله يتراجع عن طموحاته، وتعتمد عليه في ترتيب الأشياء، ويتحمل تقلباتها المزاجية، ويعشق كونه أبا، وهو لطيف في أغلب الأحيان، وتجده شخصا مثاليا وعبقريا، وبارعا في صنع عائلة من المحيطين به، ويمارس سحره مع الفرقة المسرحية، الذي يشعر به الجميع. تقنية الـ (Voice Over) تكشف عمق العلاقة التي تجمعهما، إلا أن نيكول ترفض طلب الباحث الاجتماعي بأن تمنح نفسها فرصة أن تصغي لزوجها، وهو يقرأ عليها رسالته وتغادر المكتب وهي مصرة على الانفصال.


> الشخصية الدرامية

تستثمر نيكول الفرصة التي جاءتها للسفر إلى لوس أنجلوس والعمل في مسلسل تلفزيوني، لتنهي علاقتها الزوجية، فبعد نهاية آخر عرض مسرحي لها في نيويورك مع فرقته المسرحية، يعود الاثنان إلى البيت، وهما يستقلان عربة المترو نفسها لكنهما لا يجلسان معا على المقعد نفسه، كما لو أنهما لا يعرفان بعضهما، وما أن تختلي بنفسها آخر ليلة في غرفتها، لا تستطيع أن تحبس دموعها، رغم أنها دائما ما تجد صعوبة في ذرف الدموع أثناء التمثيل على خشبة المسرح، ورغم الشرخ الكبير الذي أصاب علاقتهما الزوجية، إلا أنهما احتفظا بعلاقة الحب، التي أثمرت عن طفلهما «هنري»، ولهذا وضعا في حساباتهما أن لا يدعا ما ينشأ عن الطلاق من تبعات أن تحدث أي خلافات بينهما مثل، النفقة على الطفل وحضانته وتقاسم الشقة والممتلكات، وتعاملا كما لو أن الانفصال مسألة بسيطة لا تستدعي أن يوكلا محاميا، لكن الأمور لم تجر وفق هذا المسار، بعد أن اقترحت على نيكول إحدى العاملات معها في المسلسل التلفزيوني، أن تتصل بمحامية شهيرة اسمها «نورا»، لتنهي موضوع طلاقها، وتمكنت المحامية من التأثير على قناعاتها فأخذت نيكول تتوافق مع رأيها، وبدت حريصة على أن تنال حقوقها كاملة من زوجها، وتعترف للمحامية بأنها لم تفكر بالطلاق لأنه خانها، إنما لأنها بدأت تشعر منذ فترة أن حجمها كإنسانة وممثلة في حياته بدأ يتضاءل، فبعد أن كان اهتمام الجمهور منصبا عليها، لأنها كانت مشهورة قبل أن تتزوجه، أخذ هذا الاهتمام ينسحب ناحية زوجها المخرج، خاصة أنه لا ينقصه الذكاء ولا الإبداع في عمله، واكتشفت أيضا أنه كان بارعا في توظيف ما كانت تبوح به من أفكار أثناء أحاديثهما في البيت في كل أعماله، وعلى الرغم من أن ذلك كان يشعرها بالإطراء في بداية الأمر، إلاّ أنها شعرت في ما بعد، بأن ذاتها تسرق منها، وأنها لم تعد موجودة، حتى أن الشقة التي انتقلا إليها لم يكن لها رأي فيها. ولم يعد يكفيها الإحساس بالفخر، كونها امَّا وتربي ابنها كما كان يكرر ذلك عليها، ولمّا جاءتها تجربة العمل في لوس أنجلوس وجدت نفسها أمام فرصة ذهبية لاستعادة هويتها والحصول على موطئ قدم يخصها وحدها، وبينما كانت تنتظر منه أن يشجعها ويبدي سعادته، جاء رد فعله سلبيا على عكس ما كانت تأمله منه. ولهذا تعترف للمحامية «لو كان شارلي إيجابيا لما كنت بحاجة إلى الاستمرار بإجراءات الطلاق»، لكنها استاءت منه لأنه سخر منها، وشعر بالغيرة، ولاجل أن تختبره طلبت منه أن يذكُر لها رقم هاتفها فَلَم يتذكره، هنا قررت أن تغادر حياته لتجد حياتها، وقد انتهت إلى امرأة لا وجود لها في حياة زوجها، إلا بالقدر الذي يرضيه كزوج، بدون اعتبار لأحلامها كامرأة وممثلة، ولأنها كانت تجده مخلصا لها كزوجة تغاضت عن مشاعر الإهمال التي باتت تتحسسها لكن هذه المشاعر استيقظت بقوة دفاعا عن كيانها ما إن اكتشفت خيانته لها، آنذاك بدأت معركتها مع نفسها وحسمتها لصالح استعادة ذاتها، ذاتها التي تمردت عليها قبل أن تتمرد على زوجها، حتى أنها تطلب من أحد العاملين معها في المسلسل أن يمارس الجنس معها، حسب الطريقة التي ترغبها.


> التغير في العلاقات

كأننا أمام نسخة جديدة من شخصية «نورا» المتمردة في المسرحية الشهيرة «بيت الدمية» لهنريك ابسن، ولكن إزاء نمط جديد من المتغيرات في بنية العلاقات الاجتماعية، حيث لم يعد هناك من رادع ديني أو أخلاقي يضبط حدود هذه العلاقات ومعاييرها، فعلى سبيل المثال والدة نيكول تصر على أن تبقى علاقتها مع زوج ابنتها حتى بعد أن تنفصل نيكول عنه، لأنها تجده شخصا مرحا مثلما علاقتها مازالت مستمرة مع «جيف» طليق ابنتها الأخرى «كاسي»، كما أن علاقتها بزوجها قبل أن يتوفى لم تتأثر بعد أن اكتشفت أنه مثلي الجنس، ولا ترى حرجا وهي تتحدث أمام ابنتها نيكول عن العلاقة العاطفية التي تجمعها مع شاب أصغر منها عمرا. وحتى نيكول عندما يزورها شارلي في بيت والدتها في مدينة لوس انجلوس لرؤية ابنه ويخبرها عن فوزه بمنحة «ماك أرث» التي لا تمنح الاَ للفنانين العباقرة والتي ستتيح له العمل في لوس أنجلوس لمدة خمسة أعوام، تندفع نحوه وتحتضنه وتقبله تعبيرا عن فرحتها بهذا الخبر، لكنها لم يكن لديها استعداد أن تخضع لأي تأثير قد يشوش على قرارها بالانفصال والعودة إلى الوراء مرة أخرى، لتكون جزءا من نجاحاته، فما يهمها الآن هو تحقق النجاح بنفسها لنفسها بعيدا عن علاقتها الزوجية، ولهذا لا تتردد في أن تقدم له ظرفا ورقيا يتضمن قرارها بالانفصال في اللحظة التي يكون فيها سعيدا بفوزه بالمنحة، ويتفاجأ من إصرارها على أن تعيش نوعية مختلفة من الحياة، لكنه يعاند نفسه ولا يريد أن يستوعب ما حصل من تغيير في شخصيتها، ويظن أن من الممكن أن تغير قناعتها ما أن تعود ثانية إلى نيويورك، بعد أن تنتهي من المسلسل، لكنها تبقى على موقفها وتنصحه بأن يوكل محاميا هو أيضا، وإذا به يصبح بين يدي محام في غاية الجشع مختص بأمور الطلاق، يحاول أن يزيف الحقائق ليحقق أهدافه، ولهذا يتقصد أن يظهر أسوأ ما في شخصية الزوجة نيكول، لأجل أن يربح القضية، وبدورها تحاول محامية نيكول أن تظهر أبشع ما في سلوك شارلي، لأجل أن تربح القضية، ولم يحظ سلوك المحاميين برضا الزوجين، لأنه لا يستقيم مع اتفاقهما في بداية الأزمة بأن ينفصلا بهدوء مع الاحتفاظ بعلاقة الحب التي تجمعهما.

٭ كاتب عراقي