الأحد - 19 أبريل 2020 - الساعة 08:28 م بتوقيت اليمن ،،،
مدى الثقافي/ مها حسن *:
ثقافة الاعتراف
للاعترافات أهمية كبرى في التاريخ البشري، في الأديان وفي الفلسفة وفي الأدب وغيرها من العلوم والفنون الإنسانية، وربما أول اسم يخطر في بال أحدنا، حين نتحدث عن الاعترافات، هو كتاب جان جاك رسو، الحامل للعنوان ذاته: الاعترافات.
وفي الأدب العربي، ثمة رواية للروائي اللبناني ربيع جابر، تحمل العنوان ذاته، تجري أحداثها في فترة الحرب الأهلية اللبنانية، وكذلك يرد كتاب بنفس العنوان، للقديس أوغسطين أو أوغستينوس، وهو سيرة ذاتية، كشأن كتاب روسو، يروي فيها القديس حكاية سعيه إلى الله الأمر الذي ينقلنا إلى فكرة التوبة، أو الاعتراف، في الديانة المسيحية، والتي تعوّل كثيراً على حالة المصالحة مع الله، عبر الإقرار بالخطأ وطلب الصفح.
هذه المقدمة تأخذنا إلى فكرة الاعتراف بالخطأ للوصول إلى السلام النفسي مع الذات، وهي ليست فكرة يُرحّب بها في جميع الثقافات، وخاصة في المجتمعات الأبوية المتسلطة التي تدعو، على العكس تماماً، للتستر وعدم الفضح، كما يعبّر المثل الشعبي الدارج في أغلب البلاد العربية: لا تنشر غسيلك الوسخ!
إذاً يقوم الصراع بين فكرة الاعتراف بالذنب، للوصول إلى المصالحة مع الله أو مع الذات، أو كليهما، وبين فكرة الاستتار والمشي بجانب الحائط - أيضاً من صور المقولات الشعبية- ليحمل أحدنا خطاياه وآلامها في نفسه، يعاقب نفسه عبر التكتم الشديد..
من هنا يمكن اعتبار الفنون عموماً، والكتابة خصوصاً، أحد أهم المنابع الفكرية المعاصرة، التي تدعو لتحرير الإنسان من فكرة الذنب أو الخطيئة.
ومن هنا يمكن سرد عشرات الأمثلة عن أدب الاعتراف، آخرها الرواية التي أحدثت ضجة كبيرة في فرنسا، لتتسبب بخلق فكرة جديدة لم تكن مألوفة في الفكر المعاصر: المحاكمة الأخلاقية للأدب، حيث حصدت رواية "الموافقة" لصاحبتها فانيسا سبرينجورا تضامناً كبيراً من قبل المجتمع الفرنسي عموماً والثقافي خصوصاً، إلى أن قام وزير الثقافة بتجريد الكاتب جبريال ماتزنيف من راتبه الحكومي الخاص إثر الفضيحة التي كشفتها صاحبة الكتاب، عن استغلال الكاتب لها جنسياً في مراهقتها.
ثقافة لوم الضحية
ولكن، ورغم كل هذا التطور في تشجيع ثقافة الاعتراف، سواء الجزء المتعلق بكشف الأخطاء التي مارسها الشخص ذاته، أو بكشف الأخطاء والاعتداءات التي وقعت عليه، لا تزال ثقافة التستر في مجتمعاتنا الشرقية هي السائدة، ولا تزال الضحايا التي وقع عليها الأذى تخاف من "كشف المستور" رغم أنها الطرف السلبي والأضعف، ولكنها تتعرض أيضاً للاتهام، والمثل الرائج في بلادنا "اللي ما بيدلّي زنبيله ما حدا بيعبيله"، خير دليل على اتهام الضحية باستجلاب الأذى نحوها.
كاد قلبي ينخلع من مكانه، وأنا أعبر في شارع في "باب الفرج" الشهير في مدينة حلب، حين رأيت امرأة تصرخ وتشتم رجلاً تحرش بها، لم يتضامن معها إلا القلة، وأغلب الحاضرين، حتى من النساء، وقفوا يتفرجون باستمتاع غريب، وثمة من لامها، أنها فضحت نفسها.
في الحارة التي وُلدت فيها، كنت مع صديقاتي، ذات نهار تموزي قائظ، حيث يذهب الأهل في قيلولة الظهيرة، حين أخذ ابن جارتنا الصغير والصبي الوحيد المولود بعد خمس بنات، يحدث ضجيجاً أمام بيت جارة أخرى، ولمّا طردته من أمام بيتها، ليلعب بعيداً، اشتبك معها لغوياً، فصفعته.
بعد دقائق فقط، رأيت جارنا الضخم، يأتي غاضباً، وقد أيقظته زوجته من قيلولته، فلم يستجمع صحوه تماماً، بل قفز من السرير على صوت زوجته: ضربوا ابننا! وصل جارنا يمسك بيد ابنه مهدداً، يصرخ ملء صوته: من يمد يده على ابني، سأنكح أمه! قال العبارة باللغة الدارجة المُهينة، ولم يكن صاحياً تماماً. استدار جارنا ليعود إلى بيته، ربما ليكمل قيلولته، أو ليأخذ فنجاناً من القهوة، وقد أفسد عليه الأولاد نومه، ولكنه وقبل أن يخطو عدة خطوات، ترنّح ووقع على الأرض.
رأيت رأسه مفتوحة من الخلف، ووجدته مرمياً سابحاً بدم تدفق بسرعة، وساد الهلع، وراح الجيران يصرخون: إسعاف، إسعاف...
مات جارنا قبل وصول الإسعاف، كان ابن الجارة التي تلقت تلك العبارة المهينة، شاباً في السادسة عشرة من عمره، حين "فار" دمه وهو يسمع جارنا يهين أمه على الملأ، فأمسك بما رآه أمامه، مطرقة كبيرة قرب الباب، وهوى بها على رأس الرجل، دفاعاً عن كرامة أمه.
اتفقت جميع جاراتنا على كراهية تلك التي حرّضت زوجها: ضربوا ابننا! ونبذوها، بينما هي كانت تسير برأس مرفوعة، لا يهمها أنها أصبحت أرملة في لحظات، بل تباهت بأن زوجها مات من أجل عائلته.
سمعت أمي وزوجة عمي ونساء الحارة تكررن، أن علينا السترة في هذه المواقف، وأنه لا ينبغي أن يعرف الرجال بما يحدث، حتى لا تتورط العائلات بحوادث شجار تؤدي إلى القتل أو السجن.
حين عدت من المدرسة مرتجفة، بعد خمس سنوات على حادثة قتل جارنا، رأت أمي وجهي الممتقع، فلحقت بي إلى غرفتي تسألني، فأخبرتها بأن ابن جيراننا في الحارة الخلفية، لحق بي حتى ذلك الزقاق الضيق، وحاول التحرش بي، فقفزت أبكي من الخوف.
لا أعرف ما الذي جعل أمي، ترمي القصة في حضن أبي على الفور، لينهض وكأن أفعى قرصته، يأخذني من يدي، كما فعل جارنا من قبل مع ابنه، ويصحبني إلى بيت ذلك الصبي الذي تحرش بي.
ماذا لو قُتل أبي، كنت أبكي في الطريق محاولة العودة إلى البيت، وصورة جارنا المرمي على الأرض بقامته الضخمة تلتصق برأسي. لو مات أبي، أو قتل الشاب، سأعيش حياتي القادمة غارقة في الإحساس بالذنب.
مضى الأمر بسلام، هدد أبي الشاب الذي حرص على النزول أسفل المبنى، كي لا يعرف أهله بفعلته السوداء، وراح ينكر ويعد أبي أنه إن لمحني في مكان، سوف يتبخّر منه.
مواقع التواصل وتشجيع التحرر من ملامة الضحية
استطاعت وسائل التواصل الحديثة تغيير المعادلة الخاطئة إلى حد ما، حيث تمكن بعض ضحايا الأذى الواقع عليهم، من توثيق تلك الاعتداءات وفضحها. على سبيل المثال، قامت العديد من النساء بتصوير المُتحرشين بهن، ونشر تسجيلاتهن على الفيسبوك وتويتر وغيرهما من وسائل التواصل، وتمكنت بعض تلك النساء من إحداث هزّة في الرأي العام، لتخلقن الخوف لدى المُعتدي، الذي اعتاد على الانتصار مرتين: عبر الاعتداء، وعبر إجبار الضحية على الصمت، خوفاً من لوم المجتمع.
في التجربة السورية مع وسائل التواصل، أسست مجموعة من السوريين، صفحة على الفيسبوك، دعتها باسم "قلبي قلبك" يتبادلون فيها همومهم وتجاربهم في بلاد الشتات، بل ومن الداخل السوري، حيث حرصت المجموعة على الابتعاد عن الشأن السياسي.
تقدم هذه المجموعة عيّنة كبيرة للمجتمع العربي عموماً، والسوري خصوصاً، بتعددياته الثقافية والاجتماعية والنفسية، ويُقدّم فيها أشخاص جريئون على البوح الشخصي غير المتوقع، عبر روي قصص خاصة تعرضوا لها، تتعلق بانتهاكات جنسية تعرضوا لها، وسكتوا عنها بسبب الخوف من العقاب.
تتنوع هذه الاعترافات، وتصل، في تجربة نادرة في تاريخ البشرية، إلى اقتسام النصح والتضامن المباشر مع عدد كبير من الأشخاص، الذين يفتحون قلوبهم لصاحب المشكلة، ويقدمون له المقترحات والحلول.
ثمة حواجز بطبيعة الحال، وعقليات متزمتة، ترفض الإصغاء إلى هذه القصص، وتحاول الحطّ من شأن الضحية، لأسباب يطول شرحها، ولكن على الأغلب، هناك إيقاع إنساني مبشّر، بإمكانية الوقوف مع الضحية ضد الفاعل الأصلي، وربما ذات يوم، تتحول هذه الممارسات إلى ثقافة جديدة، تصبح قانوناً معترفاً به، يُزيح العادات المخوّفة من الاعتراف، وتتم معاقبة الفاعلين، عبر تشجيع الضحايا بكشف المعتدين، في بلاد متقدمة تسود فيها حقوق الإنسان، ويعاقب الفاعل الأصلي على عقوبته، بدلاً من معاقبة الضحايا، بالصمت أو بالتهديد بالفضح أو بإلقاء اللوم، كأنهم مسؤولون عما وقع لهم من اعتداء.
*كاتبة سورية -(ضفة ثالثة)