كتابات

الخميس - 30 أبريل 2020 - الساعة 12:30 ص بتوقيت اليمن ،،،

مدى الثقافي/ يقطان مصطفى *:


بلغت بغداد ذروة مجدها العلمي، كمّاً ونوعاً، مع (بيت الحكمة) بمرصده الفلكي وبقاعات خاصة مزودة بالمصادر اللازمة لكل علم من العلوم وتقام فيها الندوات والمحاضرات التخصصية؛ حتى لقد بلغ الإنتاج الفكري تأليفاً وتدويناً باللغة العربية شأواً عظيماً منذ منتصف القرن التاسع الميلادي، أيام كانت أوروبا تعايش عصور الظلام الوسطى.

وكما في حقول العلم العديدة، فقد اجتهد عدد من علماء العرب والمسلمين الأوائل في حقل علم الجيولوجيا، فاهتموا بدراسة قشرة الأرض ووصف تضاريسها، وأحالوا أسباب نشوئها إلى الأنهار والبحار والرياح، وللعواصف البحرية والبراكين والزلازل والخسوف الأرضيَّة، والمدِّ والجزر.. وكان من أوائل هؤلاء فيلسوف العرب الكندي (ت 256ه) الذي تحدث عن ظاهرة المد والجزر والعوامل الباطنية التي تؤثر في تكوين الأرض، وعن فكرة التتابع الزمني في ترسب الطبقات الصخرية والمعدنية.

ثم جاء ابن سينا والبيروني والمسعودي والإدريسي وقدَّموا نظريات عديدة عن الزلازل، وأسباب حدوثها، وعن المعادن والصخور، وأفاضوا في تعريف الصخور الرسوبيَّة والتحجُّر فيها (المستحجرات)، وكتبوا عن النيازك، ووقفوا على طبيعتها وأصلها، ووصفوا هيئاتها، وقسَّموها إلى نوعَيْن: حجري وحديدي. كما تحدَّثوا عن ارتفاع درجة حرارة باطن الأرض، وكان لهم فضل بالخروج بنظريَّة تكوُّن الجبال الانكساريَّة والالتوائيَّة، وتكوُّن الصخور من الماء (الصخور الرسوبية) أو النار (الصخور النارية)، وعن التضاريس وجيولوجيا المياه، وعلم الأحافير.

كتب ابن سينا (ت427ه) عن تكوّن الحجارة (الصخر)، بما يتطابق مع رأي علماء الجيولوجيا حالياً القائل بأن بعض الصخور الرسوبية تتكون من ترسبات المواد العالقة والدقيقة المحمولة بالماء؛ يقول: (ومن المحتمل أيضاً أن اليابسة قد ارتفعت من البحر...)، و(قد تتكون أنواع من الحجارة من النار...)؛ وبذا يكون قد سبق (هتن) في نظريته بأن الصخور ذات منشأين: مائي وناري! وعن تكوّن الجبال قال: (.. والغالب أن تكوّنها من طين لزج جف على طول الزمان وتحجر على مدد لا تنضبط، فيشبه أن تكون هذه المعمورة قد كانت في سالف الأيام غير مغمورة في البحار فتحجرت، إما بعد الانكشاف قليلاً قليلاً في مدد لا تفي التاريخيات بحفظ أطرافها، وإما تحت المياه لشدة الحرارة المحتقنة تحت البحر.. ولهذا يوجد في كثير من الأحجار إذا كسرت أجزاء الحيوانات المائية كالأصداف وغيرها)!.. وهذا ما يقوله العلم الحديث بأن الصخور الرسوبية تتكون نتيجة تفاعلات كيميائية تجري داخل الماء، أو نتيجة للتبخر العالي الذي يؤدي إلى تكوّن رواسب التبخر، أما تكوّنها من النار فيكون فيما يُسمى الصخور النارية الناجمة عن الحمم البركانية بعدما تخمد وتبرد.

رسم افتراضي لابن سينا في كتابه (الشفا)، وفيه رسالتُه في (المعادن والآثار العلوية)، وقد تُرجم إلى اللاتينية العام (1068م) يقسم ابن سينا النيازك إلى نوعين: حجري وحديدي، كما التقسيم المتبع في الوقت الراهن. وعن الكتاب قال المستشرق ماكس مايرهوف: (نحن مدينون لابن سينا برسالته في تكوين الجبال والأحجار والمعادن).

كانت آراء ابن سينا في الجيومورفولوجيا أقرب الآراء للنظريات الحديثة؛ فهو يعزو تكوُّن بعض الجبال إلى سببين: ذاتي يحدث عندما تدفع الزلازل القويَّة مساحات من الأرض وتحدث رابية من الروابي، أمَّا العَرَضي فيحدث عندما تعمل الرياح النسَّافة أو المياه الحفَّارة على تعرية أجزاء من الأرض دون أجزاء أخرى مجاورة لها؛ فتنخفض من جرَّاء عوامل التعرية تلك الأجزاء وتبقى المناطق المجاورة لها مرتفعة، ثم تعمل السيول على تعميق مجاريها إلى أن تغور غوراً شديداً، وتبقى المناطق المجاورة شاهقة.

وتعرّض المسعودي (ت346هـ) في كتابه (مروج الذهب ومعادن الجوهر) لبعض المعلومات الجغرافية كاستدارة الأرض وإحاطتها بغلاف جوي، وهو شرح لظاهرة المد والجزر وطبيعة العواصف في الخليج العربي ودورة الماء في الكون وجريان الأنهار وتراكم الأملاح في البحر والبراكين الكبريتية.. وتحدث بإسهاب عن تكوُّن البحار وعللها وعرض لآراءِ من سبقه فيها، وأورد أبعاد البحار وأهمَّ ما فيها من جُزُرٍ، ومواضع الخطر فيها.

وتحدث أبو الريحان البيروني (ت 440ه) في كتابه (تحديد نهايات الأماكن لتصحيح مسافات المساكن) عن التغيرات الجيولوجية التي ينتج عنها انتقال العمران من موضع إلى آخر. يقول: (فهذه بادية العرب كانت بحراً فانكبس، حتى إنَّ آثار ذلك ظاهرة عند حفر الآبار والحياض بها؛ فإنها تُبدِي أطباقاً من تراب ورمال ورَضْرَاض..). وتلك آراء لم ترِدْ إلا بعد نحو ثمانية قرون من ابن سينا والبيروني في القرن السابع عشر على لسان العالم الدنماركي نيكول ستينو، صاحب مبدأ (تعاقب الطبقات)!!!

وتكلم الإدريسي (ت 562هـ) في كتابه (نزهة المشتاق في اختراق الآفاق) عن كروية الأرض كحقيقة ثابتة. وكتب في العام (1154م)، لملك صقلية النورماندي روجر الثاني كتاباً يصف فيه عالم الأرض، وأرفق به خريطته الأشهر التي تبين الحدود الخارجية المعروفة في ذلك الوقت من اليابسة وبحر الظلمات (المحيط الأطلسي)، وذكر أنه يحيط بالجزر البريطانية، كما ألمح إلى وجود جزر بعيدة هي جزر أيسلندا ونحوها.

من المؤلفات العربية عن الجيولوجيا

يقول الإدريسي في وصف الأطلسي: (وأهم الملاحين في هذا البحر هم المعروفون باسم الأنكسية أي سكان أنكرطرة (إنجلترا)، وهي جزيرة عظيمة فيها مدن كبيرة..). ونعلم جميعاً أن مصورات الإدريسي وخرائطه قد استخدمت في سائر كشوفات عصر النهضة الأوروبية، فهو لجأ إلى تحديد تضاريس الدول من أنهار وبحيرات ومرتفعات، وضمّنها معلومات عن المدن الرئيسة في الدول، وميّز حدود الدول.

وإذا كان بعض فلاسفة اليونان القدماء قد أرجعوا الهزّات الأرضية/ الزلازل إلى رياح تحت خفيَّة، وآخرون إلى نيران في أعماق الأرض، فيرى ابن سينا أن: (.. وأمَّا الزلزلة فإنها حركة تعرض لجزء من أجزاء الأرض بسبب ما تحته، ولا محالة أن ذلك السبب يعرض له أن يتحرَّك ثم يحرِّك ما فوقه. والجسم الذي يمكن أن يتحرَّك تحت الأرض، إما جسم بخاري دخاني قوي الاندفاع كالريح، وإمَّا جسم مائي سيَّال، وإمَّا جسم هوائي..)، بينما عزا إخوان الصفا الزلازل إلى الغازات التي تحدث من جرَّاء ارتفاع درجة حرارة باطن الأرض، فتخرج من المنافذ إذا كانت الأرض في تلك البقعة متخلخلة، وإذا انصدعت تخرج هذه الغازات وينخسف مكانها، ويُسمع لها دويٌّ وزلزلة.

عرف العرب مدى اتِّساع المسطَّحات المائيَّة وعِظَم حجمها إذا ما قورنت باليابسة، وعرفوا أن التشكيلات التضاريسيَّة المتنوِّعة تمنع الماء من أن يغمر وجه الأرض. يقول ياقوت الحموي: (لولا هذا التضريس لأحاط بها الماء من جميع الجوانب وغمرها، حتى لم يكن يظهر منها شيء). أمَّا نسبة توزيع اليابسة إلى الماء فقد جاءت واضحة عند أبي الفداء في (تقويم البُلدان): (فالقدر المكشوف من الأرض هو بالتقريب ربعها، أمَّا ثلاثة أرباع الأرض الباقية فمغمور بالبحار)!!

تناول العلماء العرب والمسلمون أثر العامل الزمني في العمليَّات الجيومورفولوجية، أي تشكل التضاريس، وأثر الدورتَيْن؛ الصخريَّة والفلكيَّة في تبادل اليابسة والماء، وكذلك ما يمكن أن نطلق عليه (علم زيت الأرض)؛ فميَّزوا بين نوعين من النفط واستعملوهما، وقدَّموا نماذج للتنقيب غير المباشر عنه.

*مجلة الشارقة الثقافية