مدى الثقافي/ زيد خلدون جميل *:
لم يكن قيام الامبراطور والقائد العسكري الفرنسي نابليون بونابرت بغزو روسيا عام 1812 نقطة تحول في تاريخ أوروبا، وربما العالم وحسب، بل كذلك في مجال الأدب العالمي، حيث كان الموضوع الذي دارت حوله أحداث ما اعتبره كبار الأدباء أعظم رواية في تاريخ الأدب العالمي، ألا وهي رواية «الحرب والسلم» للكاتب الروسي ليو تولستوي. ومن الخطأ تحليل الرواية بشكل منفصل عن الظروف السياسية والعسكرية التي صاحبت أحداثها، بالإضافة إلى شخصية الكاتب المثيرة للجدل. وكأي عمل أدبي، فإن رواية «الحرب والسلم» تكشف الكثير عن أفكار الكاتب ودوافعه.
موضوع الرواية
تتناول الرواية تأثير غزو نابليون على المجتمع الروسي. ويصف تولستوي في الرواية كيف كانت حياة تلك الطبقة في رفاه واستقرار، وإذا بها تنهار لتتحول إلى مأساة كاملة. وبرع في وصف المجتمع الارستقراطي الروسي، من خلال معاناة خمس من عوائل تلك الطبقة الاجتماعية، التي جرفت عاصفة الغزو الفرنسي أفرادها ومحاولتهم للبقاء على قيد الحياة، وإنقاذ ما يمكن إنقاذه. ولم يحاول تولستوي أن يحسن من صورة الارستقراطيين، حيث أوضح أن منهم من كان مستهترا، ومنهم من كان جديا ومخلصا، وحتى ماسونيا. ولم يكن اختيار تولستوي لهذه الطبقة اعتباطيا، حيث أنه كان منها وعرفها جيدا. وكونت الطبقة المثقفة والحاكمة في عهده وعهد أحداث القصة.
وبذل الكاتب جهده لجعل كل ما في الرواية يبدو منطقيا، وقام بدمج الكثير من الأحداث والشخصيات، الحقيقية منها والخيالية، في إطار متناسق، ووصف دقيق وسلس يجعل القارئ، يظن أنه شاهد عيان لأحداث حقيقية تماما. ومن الخطأ الاعتقاد أن الرواية هي عن أفراد صنعوا الأحداث، بل عن أفراد قادتهم تلك الأحداث. وليست الروايه قصة واحدة، لأنها في الحقيقة قصص كثيرة. وكانت نتيجة ذلك العدد الكبير من الشخصيات في الرواية، حيث وصل إلى 580 شخصية (160 منها حقيقية)، وتعتبر الرواية دراسة عن التاريخ الروسي في تلك الفترة.
بينت الرواية كذلك نفاق بعض القادة، حيث يقوم أحد القادة الروس بالطلب من سكان موسكو بالتحلي بالإيمان والدفاع عن المدينة، بكل ما لديهم من وسائل وحتى أدوات الزراعة، ولكنه ما أن أصبح الخطر وشيكا حتى أمر ذلك القائد بحرق المدينة وفرّ هاربا. وأوضح تولستوي في روايته، تاثر وولع الطبقة الارستقراطية بالثقافة الفرنسية، ومعرفة أفرادها بلغتها، ومنهم «بيوتر»، أهم شخصيات الرواية، الذي كان في البداية معجبا بنابليون، وتغير ذلك الولع بالنسبة له وللروس بشكل عام إلى مقت بعد قيام نابليون بغزو روسيا.
يرى الخبراء العسكريون أن تولستوي» تفوق كذلك في وصف المعارك العسكرية، بكل ما فيها من مآس، مستفيدا من تجربته الشخصية في الحرب، حيث أنه خدم في الجيش الروسي برتبة ملازم ثان في المدفعية، أثناء حرب القرم (1853 – 1856) التي اندلعت بين روسيا من جهة، وبريطانيا وفرنسا والدولة العثمانية من جهة أخرى، والتي انتهت بخسارة روسيا. وقد صور تولستوي المعارك التي اشترك فيها الجيش الروسي خارج روسيا وخسرها مثل معركة «أوسترليتز» الشهيرة، وقال إنها كانت بدون هدف حقيقي لأنها كانت للمجد فقط، وهذا سبب خسارة الجيش الروسي لها. أما المعارك التي التي وقعت داخل روسيا، فقد ربحها الروس لأنها، في رأيه، كانت مهمة جدا، فقد كانت دفاعا عن الوطن.
كتابة الرواية
كان تولستوي في الخامسة والثلاثين من العمر عندما بدأ كتابة الرواية عام 1863 التي شملت العديد من الأحداث في أماكن متفرقة من روسيا وأوروبا. وللتحضير لكتابتها قام بزيارة تلك المواقع بنفسه، ودرس كتب التاريخ التي تناولت المواجهة الفرنسية ـ الروسية، وقام بمقابلة العديدين من الذين كانوا لا يزالون على قيد الحياة من الذين عاصروا تلك الأحداث. ونُشِرت الرواية أولا كسلسلة في مجلة روسية بعنوان 1805 وتناولت الفترة الممتدة من 1805 وحتى 1820، ولكن القراء لم يظهروا حماسا كبيرا لقراءتها، ما ولّد خيبة أمل للكاتب، فاعاد كتابتها عدة مرات حتى اقتنع أخيرا بالنسخة السابعة. ونُشِرَت الرواية أخيرا في كتاب من عدة مجلدات بعنوان «الحرب والسلم» لأول مرة عام 1869، ولم يكن العنوان جديدا، حيث كان كذلك عنوان كتاب سابق للكاتب الفوضوي الفرنسي بيير جوزيف برودون. وتكونت الرواية من ألف ومئتين وخمسين صفحة. وقد يبدو هذا الحجم مبالغا به، ولكنه لم يمنع الروس من شرائها بسرعة، فهي عنهم وعن انتصارهم في مواجهة أعظم جيش في العالم آنذاك، ما غير من مستقبل بلدهم بشكل جذري. وجعلهم هذا يقرأون الرواية بشغف، حيث كانت المشاعر الوطنية تعصف بروسيا آنذاك. وكانت المعارك الوطنية تسكر القراء، لاسيما معركة «بورودينو» التي واجه فيها الجيش الروسي غريمه الجيش الفرنسي داخل الأراضي الروسية، وكانت تعادلا بين الطرفين، ولكن مشاكل الجيش الفرنسي كانت في ازدياد، ما اضطر قائده نابليون إلى الانسحاب والاعتراف بفشله في غزو روسيا.
تعمّد تولستوي كتابة بعض الحوار باللغة الفرنسية، حيث إن 2٪ من الرواية بتلك اللغة. ولم يكن الكاتب يبالغ هنا حيث أدخلت ملكة روسيا كاترين (1729 ـ 1796) اللغة الفرنسية إلى روسيا، وجعلتها لغة البلاط الروسي، إلى درجة أن كل فرد من الارستقراطيين أجادها، وأحيانا أفضل من الروسية نفسها، ولم يخف الكثيرون إعجابهم بالثقافة الفرنسية، بل بنابليون نفسه. ولكن الأمر تغير بعد نهاية الحرب، وأخذت العوائل تستخدم مدرسي اللغة الروسية لتحسين لغتها، كي تواكب الاتجاه السياسي والثقافي الجديد في روسيا.
شخصية تولستوي
لم يكن تولستوي (1828 ـ 1910) شخصية عادية، فقد كان من عائلة بارزة في الارستقراطية الروسية، ومن الأثرياء وكبار ملاك الأراضي، ولكن شخصيته وأفكاره الغريبة أخذت تظهر منذ أن كان في العشرينيات، وازدادت غرابة مع تقدمه في السن، وأثرت في علاقته بالآخرين، فلم يستطع أن يكمل الجامعة، ووصفه أساتذته بأنه غير قادر، وغير راغب في تعلم أي شيء، ولم يحاول أن يخفي أفكاره. ولكن الكتابة كانت ما برع فيه، وعكست كتاباته أفكاره، ففي رواية «الحرب والسلم» نجد أهم شخصية في الرواية،»بيوتر»، يؤمن بافكار مثالية تجاه البشرية والدفاع عن الوطن، بالإضافة إلى ذلك، الفلاح الذي كاد أن يكون فيلسوفا واصبح محط إعجاب «بيوتر»، ومن المعروف أن تولستوي كان من أكبر الداعمين للفلاحين.
وأخذ يميل إلى الفوضوية منذ شبابه ودمج ذلك بإيمانه الديني المتزمت، ليكوّن ما يسمى بالفوضوية الدينية، وتأثر بالفيلسوف الألماني شوبنهاور، والأديب الفرنسي فيكتور هوغو والفوضويين الفرنسيين، خاصة الفوضوي الفرنسي بيير جوزيف برودهون. وآمن بأن الدولة ليست سوى مؤامرة لاستغلال الشعب وإفساده، وأن المواطن يجب أن يعيش مع الآخرين بدون حماية من الدولة، وأعلن عن كونه ضد الحرب والعنف، وانتقد القوانين الوضعية ومؤسسة الكنيسة. ومن الناحية الاقتصادية كان تولستوي ضد الملكية الخاصة للأفراد، وامتلاكهم للأراضي، وبالنسبة للجانب الاجتماعي قام بدعم الفلاحين، واعتاد على ارتداء ملابسهم، وبنى لابنائهم ثلاث عشرة مدرسة. واعتقد كذلك أن التاريخ ليس نتاج جهود أبطال قليلين، بل نتاج عدد كبير جدا من الأفراد. وكانت لديه رغبة بالتزهد، ولذلك كان يعيش زاهدا وكأنه ناسك روسي. ولم يعتبر الكتابة مهنة حقيقية، ولذلك تعلم إصلاح الأحذية، حيث اعتبرها أفضل من الكتابة مهنيا. وعلى الرغم من إظهاره الإعجاب بالقيصر الروسي الذي دافع عن روسيا في الحرب ضد نابليون، فإن تولستوي انتقد القيصر الروسي الذي كان يحكم روسيا في وقته، وحلفاءه لتدخلهم في الشؤون الداخلية للصين، وإرسالهم الجيوش إليها. هذه الافكار جعلت تولستوي تحت المراقبة الدائمة لأجهزة الأمن الروسية، وسببت مقاطعته من قبل الكنيسة الأورثوذوكسية الروسية، وحرمانه من الحصول على جائزة نوبل للآداب، على الرغم من أنه كان الأديب الأشهر والأعظم في العالم آنذاك. وكان قد أعلن رفضه لاستلام الجائزة في حالة فوزه بها. ومن الناحية الأدبية لم يكن يحترم الشعر، ولذلك انتقد الشاعر الروسي بوشكين بشدة.
ترجمة الرواية
إذا كان حجم الرواية الكبير وأسلوب تولستوي الرائع قد أثار إعجاب القراء إلى درجة اعتبارها الرواية الأعظم في تاريخ الأدب، فإنهما كانا معضلة كبيرة بالنسبة للمترجمين. وقد ترجمت الرواية إلى لغات كثيرة ومنها الفرنسية. وأما الترجمة الإنكليزية الأولى فقد نشرت بعد نشر الرواية بعشرين عاما، ولم تكن في الحقيقة سوى الترجمة الإنكليزية للترجمة الفرنسية. ولذلك، فإنها لم تكن خالية من العيوب، حيث ضعف أسلوب تولستوي، فيها وغلب أسلوب المترجمين. ولكن الترجمات الإنكليزية تتابعت بعد ذلك، وحتى يومنا هذا وبلغ عددها إحدى عشرة ترجمة حتى الآن. وكمثال على صعوبة ترجمة الرواية، فإن اثنين من المترجمين المعروفين استغرقا ثلاث سنوات حتى أكملا مهمتهما عام 2007.
الرواية في السينما
لم تكن السينما الأمريكية لتفوت فرصة هذه القصة العظيمة، فأنتجت فيلما طويلا عنها عام 1956 بلغ طوله ثلاث ساعات ونصف الساعة تقريبا، وكان من بطولة هنري فوندا وأودري هيبورن. وعرض الفيلم في موسكو كنوع من التقارب الثقافي بين طرفي الحرب الباردة آنذاك. ولكن هذا العرض أثار حفيظة القيادة السوفييتية آنذاك، التي كانت تعتبر تولستوي جزءا بارزا من الثقافة الروسية، وملكا حصريا لروسيا. ولذلك قررت القيادة السوفييتية رد الصاع صاعين عن طريق إنتاج فيلم يفوق نظيره الأمريكي. ولتحقيق ذلك كلفت مخرجا بإخراج الفيلم ووضعت تحت تصرفه كل ما احتاجه من إمكانيات، وشمل ذلك إشراك خمسة عشر ألف جندي روسي وطائرات عسكرية للتصوير الجوي. ولم يعرف كم كلف إنتاج الفيلم الروسي، ولكن بعض الخبراء يعتقدون أن تكلفته الكلية كانت ما يعادل السبعمئة مليون دولار أمريكي اليوم. وبعد ست سنوات من العمل المضني، كانت النتيجة إنتاج الفيلم بأربعة اجزاء، وعرض الأول منها عام 1966. وحصل هذا الفيلم في الولايات المتحدة الأمريكية على جائزة الأوسكار لأفضل فيلم أجنبي، حيث اعتبره النقاد الأفضل فنيا، والأدق في نقل الرواية بحذافيرها إلى المشاهد. وقد أهمل الفيلم الروسي بسرعة ونسيه الإعلام، ولكن في بداية هذا القرن قامت الحكومة الروسية بترميم شريط الفيلم القديم المتضرر، وكانت النتيجة عرض نسخة إلكترونية له، أثارت إعجاب النقاد وعرضت في مركز لنكولن للفنون في مدينة نيويورك الأمريكية عام 2019.
٭ باحث ومؤرخ من العراق (القدس العربي)