مدى الثقافي/ كتب| علي عبدالله العجري:
العوالم الشعرية للشاعر/ حسن عبدالله الشرفي، حُضِّرت حولها عدد من رسائل الماجستير والدكتوراه. وبالتالي لا يمكن أن يحيط بها مقال كهذا أو حتى سلسلة مقالات. لكني سأوصل ما بدأته في الحلقة الأولى وأكتب عن القصيدة الشرفية الغنائية.
أولاً: لأن نتاج الشاعر غزير ومتعدد وشمل كل أغراض الشعر تقريباً، عمودياً وأفقياً.
ثانياً: وجدت أن الشعر الغنائي أكثر انسجاماً مع العنوان، حيث كثف الشاعر في هذا اللون من الشعر كل قيم الجمال والتغني بالطبيعة والأرض والهواء والماء والمرأة والحب والاشتياق واللوعة والفراق والفداء كقيم إنسانية تشمل الخاص المحلي والعام الكوني.
إضافة إلى أن هذا الشعر متجرد للفن ليس فيه أي حمولة أخرى من المختلف عليه، فالقصائد المغناة ابتعدت عن كل ذلك لتستقر في المشترك بلغة القلب إلى القلب والروح إلى الروح تراتيل يطرب لها النخبوي والسياسي والموظف والمتمدن والعامل والفلاح والراعي والعسكري وحامل البندقية، المتفق مع الشرفي والمختلف معه... لأن للجميع قلوباً وأحاسيسَ. ومثل هذا الشعر يسمو بالنفس البشرية عن النوازع الشريرة ويخضعها لقيم الخير والحب والجمال.
ثالثاً: هدف شخصي، حيث أجد في هذه الأشعار التي ترنم بها الفنانون في مراحل مختلفة تملأ كأسي من الحنين والشوق إلى البيئة والناس والمفردات التي كونتني.
(يا دموعَ الهوَى شنِّي دماءْ
ساعديني على بعض الشَّجَنْ
عيبْ تسفَحْ عيونْ الشوقْ ماءْ
أو تكونْ كاذِبهْ شَكوَى (حَسَنْ)
مذهبي في الحب مِثلمَا
مذهب الطفلِ في حُبِّ اللبنْ
كلَّمَا طارَ طائْرْ فِي السما
قلتُ لُهْ يا طيرْ مِن أَجْلِ مَنْ)
***
الشاعر حسن عبدالله الشرفي كتب نحو 16 قصيدة غنائية حسب علمي.. ونلاحظ في هذه القصائد عدداً من المشتركات التي تحدد ملامح التجربة الشعرية بشكل عام والقائمة على التغني بالطبيعة - الحب - المرأة - التضحية. بصورة منفردة لكل عنصر أحياناً أو متداخلة مع بعضها أحياناً أخرى بناظم جمالي كما نلاحظ في قصيدة (في سفح وادي الجبر):
يا قَمرْ لاحَ فوقَ القِمَّهْ الشاهقهْ
نُورُهْ على الخضرْ أخضرْ
ليتني في شعاعكْ يا قمرْ زارقهْ
أغمسْ قُبَيلَ امْسَحَرْ
أُمَسِّحُ الوجهْ ذي أقسَمْتْ ما فارِقَهْ
واقبِّلُهْ ألفْ واكْثَرْ
وهنا خاطب القمر يلوح فوق أعالي الجبال وتمنى أن يتحد معه ليتسنى له زيارة المحبوب عبر أشعة ذلك القمر البعيد.(اغمس قبيل أمسحر) أي أهرع في الثلث الأخير قبيل السحر حين يكون القمر في أبهى تجلٍ (أُمَسِّحُ الوجهْ ذي أقسَمْتْ ما فارِقَهْ واقبِّلُهْ ألفْ واكْثَرْ)..
امتزج جمال الطبيعة القمر والخضرة والأماني بوصل الحبيب وتقبيله.
وكثيراً ما تمنى الشرفي أن يكون جزءاً من طبيعة الأرض فداءً للمحبوب:
ياريت وانا سقيف – ياريت انا خدر بدوي – ياريت انا كوز بارد - ليتني في شعاعك زارقة. وكل تلك المفردات لها علاقة بالبيئة الريفية.
لكن الشرفي لم يتوقف عن حالة التضحية هذه سواءً أكان الحبيب في الريف أم المدينة التي خاطب المحبوب فيها:
(يا رَيْتَني في جباكمْ عُصْفُري
والاَّ حَمَامي على امْكُنَّهْ يَدورْ
أتْشاقِرِكْ مِن قُبالْ امْمَشْقُرِي
واسَبِّحَ اللهْ خَلاَّقْ البُدُورْ)
امكنّة -الكنّية: الشرفة البارزة من سطح المنزل.
هذه الأغنية لحّنها وغنّاها الفنان أحمد الحبيشي، ثم تبعه في غنائها عدد كبير من الفنانين والفنانات الشباب: حسين محب، أسامة الآنسي، نادر الجرادي الذي غادر عالمنا مبكرا - صلاح الأخفش... وغيرهم. وسبب شهرة هذه الأغنية رشاقة كلماتها وإيقاعاتها الراقصة التي تناسب الأعراس والأفراح. فضلاً عن صورها الجمالية والبلاغية السهلة والممتنعة مثل سائر شعر حسن عبد الله الشرفي الذي لا يكف عن افتداء الحبيب. كما في مطلع القصيدة المغناة الجميلة التي أداها بلحن بديع الفنان عبد الرحمن الأخفش:
(مَسَّاكْ بالخِيرِ مَسَّاكْ
وصبَّحَكْ بالمحبّة
يا نجمْ في الروحِ مَسْراكْ
يَفْديكْ رُوحهْ وقلبهْ).
لماذا كل هذا الافتداء للمحبوب والحلول مع ظواهر الطبيعة والأشياء من أجله؟
(نذرتُ قلبي وعُمري والليالي والايَّامْ
فِي قِبلَةِ الشوقِ دَمعهْ).
من وجهة نظري أن الشرفي لا فرق عنده بين جمال الأرض وجمال المحبوب، بل هما في حالة تكاملية وكلاهما يفتدى ولا مانع عنده إن كان سقيفاً، خدراً، قمراً، نجماً، شعاعاً أو طيراً أو زهراً أو غصناً. فكلها مفردات لقيمة واحدة هي الأرض وما عليها من جمال وحب وإنسان.
تجلى ذلك في أكثر من قصيدة منها قوله:
يا جبالَ المحبّهْ في بلادِ الشَّرفْ
يا حُلْمَ مَنْ جَا ومَنْ راحْ
كيفَ ضيّعت قلبي في سُفوحِ القَطَفْ
والعاصِميَّهْ وجيَّاحْ
بينَ خُضْرِ الرُّبَى حيثُ الشعاعُ المُهَفْهفْ
والزهرْ بالعطرِ فوّاحْ
والغواني تُبكِّرْ صَفّْ تَرْقُصْ وَرا صَفّْ
بِمْتَحْتَحَهْ وامْتِرِتَّاحْ.
(القطف – العاصمية – جياح) مناطق في المحابشة. (امتَحْتَحَهْ وامْتِرِتَّاحْ) الغنج والدلال.
وعندما يتغنى الشرفي بالمرأة ليس بالضرورة أن تكون جسداّ أنثوياّ وإنما قيمة مطلقة من قيم الحب والجمال. فقد أحبها وتغنى بها فقيرة:
(يا ريتْ واللهْ علَى شربهْ وفصْعَهْ كشيمْ
ونُصَّ ساعهْ قِدَا الـمحبوبْ داخلْ عريشْ). (فصعة كشيم) كسرة خبز ناشفة.
وتغنى بها راعية:
(افدِي بروحي ومالي غانياتْ امْمَعازيبْ
مِن كلِّ مَلمُومَةْ القامَهْ تُبَكّرْ مع امْذيبْ
تمسي تحُوشُ امْغَنَمْ ما بينَ عُوجِ امْمَزرايبْ
هُدُومها شَمُّها كاذي وما تعرف امْطِيبْ).
كما عشق المرأة فلاحة:
(علاَّنْ جَا يا مَصايفْ
يا شوقْ قلبي العليلْ
الزهْرُ في كلِّ عاطِفْ
وكلِّ حالي كحيلْ).
ونرى الشرفي أيضاً هائماً بالمرأة في تفاصيل المدينة:
(ما على مَن عِشقْ بِيضَ الرّغاريدِ مَنْقُودْ
ما دامَ عارفْ طريقهْ
والذي ما سِكْر بالحبّ يَسكَرْ بِعُنقودْ
في مَنْظَرَهْ أو حديقهْ).
وما يجمع كل ذلك هي مفردات الجمال ومنافذه في الجسد والروح وفي الطبيعة الخضراء والماء والمطر والزهر والريحان وكل العطور. مفردات تناثرت في أغلب شعر الشرفي الغنائي. ونراه مكثراً من معاني الفرح والبهجة والضياء والنور. ومبتعداً قدر المستطاع عن أنين الحزن والبكاء واليأس حتى في حالة الشكوى والحنين ودواعي الشجن:
(يا حبيبي تعالْ
نضحكْ نُدَردِشْ نُغَنِّي
في سفوحْ امْجبالْ
تَقَرْ عينكْ وعيني
في كلِّ دُردُوشِ مَوَّالْ
مَنقُوشْ أخضرْ وبُنِّي
يا زهرةَ الفُلْ باللهْ اقبليني صديقْ
خلِّي فؤادَ الهوَى يروَى بِأحلَى رَحِيقْ
ما فايدهْ في عُمُرْ كُربَهْ وغمَّهْ وضَيقْ
مثلَ المسافرْ لِوَحدِهْ ما لِقي لُهْ رَفيقْ).
وفي الأخير لا يسعني إلا أن أكتفي بما تقدم وقد يكون ما كتبته عبارة ارتشفات سريعة من شعر حسن عبدالله الشرفي الغنائي، لا تروي المتعطش للنهل من هذا المعين الكبير.
فقط أجدني غارقاً في حنيني وشجني أردد مع شاعر الحب والريحان:
(يا نوارسْ عَدنْ
بينَ البُرَيقَهْ وصيرَهْ
طالْ ليلْ الشَّجنْ
وانَا قليلْ البَصِيرَهْ).