تفاصيل

السبت - 06 يونيو 2020 - الساعة 07:41 م بتوقيت اليمن ،،،

مدى الثقافي/ د. عبد العزيز المقالح *:


(في جبال الآس واللبان، وعلى القمة الشاهقة المعروفة بـ(قمة المذبح)، لا تزال بقايا هيكل مهجور، متهدم، يُدعى «الفُلك». أما تاريخه فقد غاب في لجج سحيقة من القِدم تنتهي في عرف التقاليد إلى الطوفان. كثيرة هي الأساطير التي حاكتها الأيام حول الفُلك، لكن الأسطورة الأكثر رواجاً هي التي سمعتها مراراً من أفواه القاطنين في سفح قمة المذبح، حيث أتيح لي ذات سنة أن أمضي صيفاً بكامله. وها أنا أرويها كما سمعتها..).

بهذا التمهيد البديع يقدّم ميخائيل نعيمة للأسطورة المدهشة، التي جاءت مفتتحاً مثيراً للخيال لكتابه المسمى (مرداد)، ولا أشك في أن نعيمة كتبه متأثراً بكتاب (النبي) لرفيقه جبران خليل جبران. وأرى أن نعيمة في هذا الكتاب قد تفوق على رفيقه بما حفل به كتاب (مرداد) من قيم روحانية، ومن ملامسة لمشكلات الوجود الإنساني، ومن تدفق في الأسلوب ووضوح في الومضات الروحية وتنوع في المواقف، واسترسال في الاستزادة من الاستنارة والتحام بالوعي الكوني. إلاَّ أن هذا الكتاب، الذي يحمل كل هذه المعاني، والذي تعددت طبعاته، وأقبلت المطابع على نشره، برغم غرابة عنوانه، لم يُنقل إلى لغة أخرى شأن كتاب (النبي)، الذي تمت ترجمته إلى أكثر من أربعين لغة، ربما لأنه نُشر باللغة الإنجليزية، وربما لبساطته وإيجازه، وعلى العكس من ذلك كتاب (مرداد) في لغته الشعرية واتساع آفاق رؤيته.

وهو كتاب نادر في إصلاح الروح وتهذيب النفس الإنسانية، وتحريرها من التلوث الذي عَمّ وطَمّ وكاد يفسد حياة الإنسان، ويقطع آخر شعرة تربطه بجنسه البشري، بعد أن انتشرت الحروب واتسع نطاقها وتمادى نزيف الدم.

أما اسم الكتاب؛ فيعود إلى صاحبه المتخيل (مرداد) الذي ألقى محتوياته كمواعظ قدسية على رفاقه من رهبان (الفُلك) وحراسه، وأوصى أن يُعطى إلى أول إنسان يتمكن من تحدي عقبات الصعود إلى حيث بقايا هيكل الفُلك، الذي أبحر عليه نوح عليه السلام في زمن الطوفان. ولا أنسى هنا الإشارة إلى أن عنوان كتاب ميخائيل نعيمة يحمل إضافة مهمة بحروف صغيرة تجعل العنوان على النحو الآتي: (مرداد.. منارة.. وميناء)، وهذه الإضافة جديرة أن تأخذ مكانها الدلالي لكونها تكشف عن الهدف الذي توخّى صاحبه أن يصل إلى القارئ ليستنير من ناحية، وليبدأ الإبحار نحو المعرفة بعد أن يكون قد تخطّى مثالب الزمان والمكان.

يتألف كتاب (مرداد) من سبعة وثلاثين فصلاً ذات مستوى عالٍ في الرؤية والأسلوب والتعبير عن الموقف الإنساني والروحاني.. وفي السطور السابقة إشارة إلى مدخل الكتاب، وما احتوى عليه ذلك المدخل من وقائع وأساطير مدهشة تشد إليها القارئ وتجعله يواصل القراءة بإحساس منبهر وأنفاس متقطعة، وهو يتابع مغامرة الإنسان الذي اختار أن يتحدى الأخطار ويصعد إلى قمة جبل الثلج، حيث بقايا (الفُلك) أو سفينة نوح، ويكون من حظه، بعد رحلة لا حدود لمشقاتها، أن يعثر على كتاب (مرداد)، وأن يعود به ليطرحه بين أيدي الكائنات البشرية لتجد فيه زاداً مختلفاً عن كل زاد، وحكمة تضيء لمن تاهت قدماه في الطريق الشائك المليء بالصخور المدببة والأشواك التي لا تجرح الأقدام، بل تُدمي الروح أيضاً.

لم يكن صعود الجبل صعباً وعسيراً فحسب، بل كان ضرباً من المستحيل لما امتلأ به من المفاجآت المثيرة الغامضة، ولما قابله من أشخاص هم إلى الأساطير أقرب منهم إلى الناس، الذين نجدهم في حياتنا العادية ووسط طرق سوية لا منحدرات فيها ولا هاويات. وكان أول من التقاه، في ذلك المنحدر الصعب، راعياً شاباً يقود قطيعاً من الماعز تتسلق الجبل، وكأنها تمشي على سجادة ناعمة، وأول ما فعله الراعي أن أخذ ما كان يحمله الرجل من خبز وماء، وكأنه يقول له: (إن في لحمك وحده ما يكفيك طعاماً وفي دمك وحده ما يكفيك شراباً)، ثم ودّعه وهو يترنم بهذه الأبيات التي تدعو إلى الزهد والتحرر من كل ما يمتلك الإنسان ويحط من قدره:
قَلّ ما أملكه
قلّ ما يملكني
زاد ما أملكه
زاد ما يملكني
قَلّ ما يملكني
زاد قدري
زاد ما يملكني
قلّ قدري
رب يسرٍ كان عسراً
رب عسرٍ كان يسرا
وبعد إغفاءة لا يدري كم طالت، دقيقة أم دهراً، يرى أمامه فتاة في يدها مصباح ضئيل النور، وكان وجهها مشرقاً بجمال فائق لا حد له، وبالقرب منها عجوز حوت من الشناعة على قدر ما حملت الفتاة من الحُسن، ومضت هذه العجوز تجرده من ثيابه تنزعها عن جسده ثوباً ثوباً، إلى أن تركته ولا يستره سوى جلده وكأنها تنشد:
الحب لا يُعرّى
والنور لا يُعار
أحبِبْ ترَ ما لا يُرى
آثِر وسر أنىّ تشاء

ولا تقف المفاجأة عند هذين المشهدين؛ فقد فوجئ بعجوزين يبلغان من العمر أقصاه، وهما يطلبان إليه التخلي عن الكهف الذي احتمى به، بعد أن يسلباه عصاه، وهما يرغبان في قضاء ليلة عرسهما في هذا الكهف المطلّ على الهاوية، وقد أخذا يترنمان بهذه الأبيات:
من سار من غير عصا
وقي العثار
من عاف داراً عاش في
كل الديار
واهاً لنا أسرى العصي
واهاً لنا أسرى البيوت
واهاً لنا.. واهاً لنا

هكذا تتوالى عليه المفاجآت والدروس، وهو شبه غائب عن الوجود إلى أن توقظه يدا حارس الفُلك، الذي أخبره أنه كان في انتظاره منذ سنوات ليسلمه كتاب (مرداد) حسب وصية هذا الأخير؛ لكي يعمل على نشره بين البشر، الذين هم أحوج ما يكونون إليه ليسترجعوا ما غاب من إنسانيتهم، وينزعوا الحُجب الكثيفة من أرواحهم، ويستعيدوا قدراً من السكينة المفقودة في حياتهم، التي تزداد بؤساً واضطراباً وتتهددها النزاعات والحروب.

ومن الفصل الحادي عشر فقرة ينادي فيها (مرداد) إلى المحبة ونبذ الكراهية، وهي: (من كان له عدو واحد كان بلا صديق واحد.. إذ كيف للقلب الذي تسكنه العداوة أن يكون ميناءً أميناً للصداقة؟ كيف لمن في قلبه بغضاء أن يعرف نشوة المحبة؟ فلو كان لكم أن تغذّوا جميع المخلوقات بعصير المحبة ما خلا دويدة واحدة حقيرة، لكان لكم في تلك الدويدة وحدها ما ينغّص عليكم حياتكم على قدر كرهكم لتلك الدويدة. لأنكم ما أحببتم إنساناً أو شيئاً إلاَّ أحببتم فيه ذواتكم.. ولا كرهتم إنساناً إلاَّ كرهتم فيه ذواتكم. كل ما تحبون مرتبط بكل ما تكرهون ارتباطاً أوثق من ارتباط صدوركم بظهوركم. فلو صَدقتم مع أنفسكم لكان عليكم أن تحبوا ما تكرهون وما يكرهكم قبل أن تحبوا ما تحبون ويحبكم.

*من صفحة الكاتب على الفيس بوك