كتابات

الخميس - 11 يونيو 2020 - الساعة 05:36 م بتوقيت اليمن ،،،

مدى الثقافي/ د. عبد العزيز المقالح:


ظل صوت الفرح في الشعر العربي القديم غائباً، ومثله الصوت المتفائل فقد غلبت عليه نزعة سوداوية، منطلقة من البكاء على الأطلال والحنين إلى مرابع الأحباب، ولم يكن ذلك شأن الشعر الجاهلي فحسب، بل ظلت هذه النزعة السوداوية تتحكم به حتى بعد أن شهد نقلتين مهمتين؛ بدأت الأولى مع ظهور الإسلام والانفتاح على المعاني الروحية الجديدة والرؤى الإشراقية، وبرزت النقلة الثانية في العصر العباسي وما حفل به من تطور حضاري وثقافي. لكن الشعراء - حتى الكبار منهم- ظلوا يجترّون ظاهرة الحنين إلى أطلال ومرابع في الخيال، وواصلوا البكاء عليها بإحساس حاد ومشاعر مرهفة:

يقول المتنبي:

بليت بِلى الأطلال إن لم أقف بها

وقوف شحيحٍ ضاع في الترب خاتمه

ويقول الشريف الرضي:

ولقد مررتُ على ديارهمُ

وطلولها بيد البِلى نهبُ

فوقفت حتى ضج من لغب

نضوي ولج بعذلي الركبُ

وتلفتت عيني فمذ خفيت

عني الطلول تلفت القلب

وكأنما هذا البكاء المتجذر في الروح العربية، قد حال بين الشاعر العربي والفرح، وأقصاه عن شيء اسمه التفاؤل، إلى أن جاء العصر الحديث بمؤثراته الداخلية والخارجية، فبدأ بعض الشعراء يعزفون بالكلمات ألحاناً لا تخلو من التفاؤل والبحث عن البهجة. وأزعم أن رائد هذا الاتجاه التفاؤلي بامتياز هو الشاعر إيليا أبو ماضي، الذي كان له في بعض قصائده فلسفة مباشرة، تدعو إلى النظر إلى واقع الحياة بمنظور صافٍ وعين متفائلة خلافاً لكثير من شعراء عصره الرومانسيين، منهم خاصة الذين غرقت قصائدهم في بحار من الدموع والأسى. ويمكن للدارس المتخصص في مفهوم الشعر، أن يرى في قصيدة (فلسفة الحياة) لهذا الشاعر الكبير ما يمكن تسميته بالبيان الأول في هذا المجال، فلم تسبقها قصيدة في دعوتها الواضحة الغنية بالأمثلة المستوحاة من واقع الحياة والمعتمدة على حقائق الوجود الإنساني وغير الإنساني، وهنا جزء من مدخل القصيدة المشار إليها:

أيّهذا الشاكي وما بك داءُ

كيف تشكو إذا غدوت عليلا؟

إن شر النفوس في الأرض نفسٌ

تتوقى قبل الرحيل الرحيلا

وترى الشوك في الورود وتعمى

أن ترى فوقها الندى إكليلا

هو عبء على الحياة ثقيل

من يظن الحياة عبئاً ثقيلا

والذي نفسه بغير جمال

لا يرى في الوجود شيئاً جميلا

أدركت كنهها طيور الروابي

فمن العار أن تظل جهولاً

ما تراها والحقل ملك سواها

تخذت فيه مسرحاً ومقيلا

تتغنى والصقر قد ملك الجوَّ

عليها والصائدون السبيلا

تتغنى وعمرها بعض عام

أفتبكي وقد تعيش طويلا؟

كأني بهذه القصيدة (البيان) وقد نظمت نفسها واختارت مفرداتها ومعانيها البسيطة، لتجد طريقها إلى جمهورها الواسع من المثقفين والأميين، ممن يعرفون معنى الشعر وممن لا يعرفون شيئاً عن هذا المعنى. وليس من المبالغة القول إنها وجدت طريقها إلى كل الأرض العربية وقام بتلحينها وأدائها أكثر من فنان عربي. وقد أتبعها الشاعر بقصيدة بعنوان (كم تشتكي)، وهي خطاب موجه إلى الإنسان المتشائم ذلك الذي لم يعد يربطه بالوجود من حوله شعور مرهف، تجاه ما يفيض به هذا الوجود من معانٍ ومشاهد ومفاتن يتمتع بها الإنسان مجاناً، ومن حقه أن يعدها مِلكاً له كما هي في الوقت ذاته مِلك متاح للآخرين:

كم تشتكي وتقول إنك معدمُ

والأرض ملكك والسما والأنجمُ

ولك الحقول وزهرها وأريجها

ونسيمها والبلبل المترنم

والماء حولك فضةٌ رقراقةٌ

والشمس فوقك عسجدٌ يتضرم

والنور يبني في السفوح وفي الذرا

دوراً مزخرفة وحيناً يهدم

هشت لك الدنيا فما لك واجما؟

وتبسمت فعلام لا تبسمُ؟

إن كنت مكتئبا لعزٍ قد مضى

هيهات يرجعه إليك تندم

أو كنت تشفق من حلول مصيبة

هيهات يمنع أن يحل تجهم

وعلى صلة وثيقة بهذه القصيدة، وتأكيداً لما جاء فيها من رؤى دلالية لا تخلو من منطق مقنع وأمثلة جديرة بالتأمل، تأتي قصيدة (ابتسم) يتصدرها فعل الأمر الخالي من الصرامة، والذي يكاد في مدلوله يشبه الرجاء، فضلاً عما تتميز به هذه القصيدة من حوار بين الشاعر من ناحية والآخر المكتئب أو الحزين من ناحية ثانية، وفيها من اقتدار الشاعر على الإقناع الكثير:

قال: السماء كئيبة وتجهما

قلت ابتسم يكفي التجهم في السما

قال: الصبا ولى: فقلت له: ابتسم

لن يرجع الأسف الصبا المتصرما

قال: التي كانت سمائي في الهوى

صارت لقلبي في الغرام جهنما

قلت: ابتسم واطرب فلو فارقتها

لقضيت عمرك كله مــتألما

قال العدا حولي علت صيحاتهم

أأسرّ والأعداء حولي في الحمى؟

قلت: ابتسم.. لم يطلبوك بذمهم

لو لم تكن منهم أجل وأعظما

وفي قصيدة أخرى ترتقي كلمات الشاعر إلى مدارج أوسع في الفضاء نفسه، وتستمد معانيها وصورها من رصيد لا ينفد من التفاؤل والشعور بأهمية مقاومة كل ما يبعث على الكآبة. والقصيدة من الوزن نفسه والقافية ذاتها، وكأنها استدراك لما لم تستكمله سابقتها من صور وبراهين إقناع:

كن بلسماً إن صار دهرك أرقما

وحلاوة إن صار غيرك علقما

إن الحياة حبتك كل كنوزها

لا تبخلن على الحياة ببعض ما ..

أحسن وإن لم تجز حتى بالثنا

أي الجزاء الغيث يبغي إن همى؟

من ذا يكافئ زهرة فواحةً؟

أو من يثيب البلبل المترنما؟

أيقظ شعورك بالمحبة إن غفا

لولا شعور الناس كانوا كالدمى

أحبب فيغدو الكوخ قصراً نيرا

وابغض فيمسي الكون سجناً مظلما

إن كل بيت في هذه القصيدة، يحتاج إلى إضاءة وشرح لما تضمنته القصيدة من معانٍ مضيئة في حياتنا جميعاً، ولكننا لا نتنبه لها، ولا نعنى بدلالتها، وتبدو عين الشاعر من جهة كما روحه من جهة أخرى قادرة على التوغل في حقائق الأشياء، واستخلاص ما تتسع له من صور وتداعيات...وفي قصيدة على درجة من الأهمية في هذا المجال، يتوقف الشاعر ليندمج مع نفسه في حساب دقيق حول الفكرة الرئيسة، التي يقوم عليها التفاؤل، بوصفه شعوراً داخلياً، يجعل من الفكرة واقعاً، وعنوان القصيدة هو (الغبطة فكرة)، ليثبت بذلك أن الواقع المتخيل ليس سوى فكرة تنبثق في وعي الإنسان المتفائل، فيرى معها أن العثور على الغبطة، أو بالأحرى، السعادة في إمكاننا جميعاً، إذا ما نجحنا في التخلي عن النظرة الواقعية المتشائمة والنظر إلى الحياة من خلال رؤية فلسفية زاهدة تجعلها مقبولة لأن تعاش بعيداً عن الشعور الحزين والإحساس المرير بالحرمان:

أيها الشاكي الليالي إنما الغبطة فكرة

ربما استوطنت الكوخ وما في الكوخ كسره

وخلت منها القصور العاليات المشمخرة

تلبس الغصن المعرى فإذا في الغصن نضره

وإذا رفت على القَفْرِ استوى ماء وخضره

وإذا مست حصاه صقلتها فهي دره

بهذا الفيض المتصاعد والمصحوب حيناً بالتكرار والشفافية، يثبت الصوت المتفائل في شعرنا العربي الحديث وجوده وحيويته وتأثيره، ويعلن أن الحياة لا تخلو من مساحة واسعة للغبطة والجمال.

* نُشر في مجلة الشارقة الثقافية