كتابات

الأحد - 14 يونيو 2020 - الساعة 02:33 م بتوقيت اليمن ،،،

مدى الثقافي/ د. عبد العزيز المقالح:


لم يكن شعر أبي العلاء المعري في بداياته، يختلف قليلاً أو كثيراً عن شعر الأسلاف الذين سبقوه؛ فقد ذهب في كتابة قصائده الأولى مذهبهم، كما انتهج نهجهم في موضوعات شعره، وفي لغة ذلك الشعر وأساليبه. فهو يمدح ويهجو، ويكتب المراثي، ويجيد الوصف، ويحسن الشكوى، ويطرق أبواب الغزل، وكان حافظاً واعياً لمخزون الشعر العربي، منذ العصر الجاهلي حتى عصره، وكانت صحبته لديوان أبي الطيب المتنبي وإعجابه غير المحدود بقائل هذه الأبيات:

أي محلٍ أرتقي

وأي شخصٍ أتقي

وكل ما خلق الله

وما لم يخلقِ

محتقر في ناظري

كشعرة في مفرقي

وقد أخذ شعر أبي العلاء طورين اثنين، وكان الطور الأول من نتاج بدايات حياته الشعرية، يعلو فيه صوت الذات وتأخذ فيه (الأنا) مكانها من المبالغة تجلت في أكثر من قصيدة وفي أكثر من بيت، وقد ذاع صيت قصيدته (اللامية) التي امتدح بها نفسه، وكادت تخفي حقيقته وتسجنه في هذا المنحى العابر والتقليدي.. وهنا أبيات من تلك القصيدة:

ألا في سبيل المجد ما أنا فاعلُ

عفافٌ وإقدام وحزم ونائلُ

أعندي وقد مارست كل خفيّةٍ

يُصدّق واشٍ أو يُخيَّبُ سائلُ؟

وقد سار ذكري في البلاد فمن لهم

بإخفاء شمسٍ ضوؤها متكاملُ؟

يهمُّ الليالي بعضُ ما أنا مضمرٌ

ويُثقِلُ رضوى، دون ما أنا حاملُ

وإني وإن كنتُ الأخيرَ زمانُهُ

لآتٍ بما لم تستطعْهُ الأوائلُ

وأغدو ولو أنّ الصباحَ صوارمٌ

وأسري ولو أنّ الظلامَ جحافلُ

وأيُّ جوادٍ لم يُحلَّ لجامُهُ

ونضوٍ يمانٍ أغفلتْهُ الصياقلُ

هذا ضرب من إعلاء الذات المبالغ فيه، والذي لم يسبق إلى مثله شاعر ولم ينجح إلى مماثلته ناظم. وهناك أبيات كثر في قصائد أخرى، وأبيات وصلت إلى مؤرخي الأدب ودارسيه مفرقة، وربما كانت منزوعة من سياق قصائد مطولة أو قصيرة، ومنها البيت الذي يكاد بمفرده يختزل كل ما جاء في القصيدة اللامية سالفة الذكر، وهو:

ولكل عصرٍ واحدٌ يسمو به

وأنا لهذا العصر ذاك الواحدُ

ومن الأبيات التي تقطر أنانيةً وحباً للذات، واستئثاراً بالأرض وما عليها:

فمن لي بأرضٍ رحبةٍ لا يحلُّها

سواي تضاهي دارةَ المتقاربِ

وهو بيت يختلف في معناه وإيحاءاته عن بيت له جاء في مرحلة لاحقة يقول فيه:

فلا مطرت عليّ ولا بأرضي

سحائبُ ليس تنتظم البلادا

لقد كان في البيت الأول ذاتياً مفرطاً في أنانيته، يريد أن تكون الأرض له وحده لا يشاركه فيها أحد، وفي البيت الثاني مؤثراً مفرطاً في إيثاره. والبيت الأول يتسق في دلالته مع كل ما يوحي به الطور الأول في حياته، وفيه لم يكن يعرف الاستسلام، أو يتقبل ما يحدث وكأنه لا مفر منه ولا سبيل إلى مواجهته بالتصدي السهل، أو العنيف.. يقول في واحدة من أهم قصائد هذه المرحلة:

أرى العنقاء تكبر أن تصادا

فعاند من تطيقُ له عنادا

أفوق البدر يوضع لي مهادٌ

أم الجوزاء تحت يدي وسادا؟

قنعتُ فخلتُ أن البدر دوني

وسيّان التقنع والجهادا

وقوله أيضاً:

ورائي أمامٌ والأمامُ وراءُ

إذا أنا لم تُكْبِرْنيَ الكُبَراءُ

بأي لسانٍ ذامني متجاهلٌ

عليّ وخَفْقُ الريحِ فيَّ ثناءُ

لكن هذا الصوت العائد المتحدي خفت، وكاد يختفي، بل لعله اختفى تماماً، وحل محله صوت آخر على درجة من الاستسلام والانسحاق ونكران الذات، وربما كان لبغداد دور في هذا التحول، فبقدر ما أضافت إلى معارفه الأدبية والفكرية وأطلعته على تجارب جديدة في الحياة، فقد خلقت لديه حالة يأس وانكسار وجعلته يعود إلى المعرة مسقط رأسه ليعتزل حياة الناس ويبدأ مرحلة من الحياة تغير فيها كل شيء؛ من المأكل إلى التفكير الانعزالي المنكسر. كانت بغداد عندما أقام فيها لاتزال حاضرة العالم برغم ما كان قد أدرك الخلافة من ضعف ووهن، وفيها ما في كل حاضرة عالمية من تناقضات، وهو ما جعله في الأيام الأخيرة من الإقامة فيها يشعر بالغثيان والقلق ويتمنى لو أن الخمرة قد صارت حلالاً لشربها فيذهل أنه في العراق رديء الأماني لا أنيس ولا مال.

وفي رسالته إلى أهل المعرة، بعد عودته مباشرة من بغداد، ما يوحي بذلك القلق، والرغبة في اعتزال الناس وأساليب حياتهم، وهو في رسالته هذه يتمنى عليهم أن يتقبلوا اعتذاره بأن لا يزور ولا يُزار، وأن يتركوه لوحدته، وعزلته الفكرية التي نذر لها بقية حياته، وبعد أن كان فخوراً بذاته وما حققه من مجد أدبي ومعرفي، صار ينكر ذلك على نفسه ولا يعترف بما كان له من فضل ومن حضور وتأثير، فهو يلوم على أبناء مدينته إصرارهم على انبعاثه شافعاً لهم لدى القائد صالح بن مرداس أحد أمراء الحروب وناهبي المدن، وفي تواضع شديد يقول:

تغيبتُ في منزلي برهةً

ستيرَ العيوبِ فقيدَ الحسدْ

فلما مضى العمرُ إلاَّ الأقلَّ

وحُمَّ لروحي فراقُ الجسدْ

بُعثتُ شفيعاً إلى صالحٍ

وذاك من القومِ رأيٌّ فسدْ

فيسمعُ مني هديلَ الحَمامِ

وأسمعُ منه زئيرَ الأسدْ

لكن صالح بن مرداس تقبل شفاعته وأعرض عن المعرة، وتركها سالمة لأهلها تقديراً لمكانة هذا الشيخ الجليل. وفي حالة مماثلة نراه يستنكر إقبال الناس على زيارته والتعرف إليه والاستئناس بمعرفته:

يزورني القوم هذا أرضه يَمَنٌ

من البلادِ وهذا داره الطَبَسُ

قالوا: سمعنا حديثاً عنك قلتُ لهم

لا يبعدُ اللهُ إلاَّ معشراً لَبَسوا

يبغون منيَ معنى لستُ أُحسنُهُ

فإن صدقتُ عَرَتْهم أوجهٌ عُبُسُ

ماذا يريدون؟ لا مالٌ تيسّرَ لي

فيُستماحُ ولا علمٌ فيُقتبسُ

إنه هنا ينكر على نفسه ما حققه من شهرة وإقبال، وهكذا يبدأ الطور الثاني من شعره القائم على التواضع المبالغ فيه، والتقليل من شأن ما تحقق له من معارف أدبية ولغوية وفكرية:

دُعيتُ أبا العلاءِ وذاك مينٌ

ولكنَّ الصحيحَ أبا النزولِ

إنه يتمادى في التواضع وسحق الذات:

جسدي خرقةٌ تُخاط إلى الأرضِ

فيا خائطَ العوالمِ خطني

والرغبة هنا أكثر من واضحة في تصغير نفسه والتقليل من أهمية علمه، وهو ما يدفع به إلى المساواة بين العلماء والجهلاء، ويرى الفارق بينهما شفيفاً، وهو ما يتعدى تحقير النفس إلى الآخرين:

وما العلماءُ والجهّالُ إلاَّ

قريبٌ، حين تنظرُ من قريبِ

وكان أبو العلاء قبل أن يصل إلى هذا المستوى من نكران الذات، قد بدأ ينظر إلى الأشياء من زاوية يتساوى فيها الحزن والفرح والبكاء والغناء:

غيرُ مجدٍ في ملتي واعتقادي

نوحُ باكٍ ولا ترنّمُ شادِ

وشبيهٌ صوتُ النَّعْيِ إذا قي

سَ بصوتِ البشيرِ في كل نادِ

أبكتْ تلكم الحمامةُ أم غنّ

تْ على فرعِ غصنِها الميّادِ

إن حزناً في ساعةِ الموتِ أضعا

فُ سرورٍ في ساعةِ الميلادِ

لقد كان أبو العلاء المعري معجزة عصره، وهو لايزال معجزة عصرنا بما أنجزه، وهو الموهوب الضرير المستطيع بغيره، من إبداع شعري ونتاجات فكرية في مقدمتها كتابه الذي أطلق عليه اسم (رسالة الغفران) الذي نال حظوة واهتماماً منقطع النظير على المستوى العربي، وعلى مستوى العالم، وكان له أثره في مبدعي العصور الوسطى، ومنهم صاحب (الكوميديا الإلهية) الإيطالي دانتي أليغييري، أشهر المبدعين الإيطاليين في العصور الوسطى.

* نُشر في مجلة الشارقة الثقافية