كتابات

الإثنين - 15 يونيو 2020 - الساعة 11:49 ص بتوقيت اليمن ،،،

مدى الثقافي/ كتب| علي عبد الله العجري:


الكتابة طقس، والكتابة وجع، والكتابة دواء، والكتابة عيش في اللا زمن.من يكتب رواية مثلاً يعيش زمن شخوصها المتخيلين بكل التفاصيل الدقيقة سواءً بضمير الغائب (هو) أو ضمير المتكلم (أنا) أو بضمائر متعددة.

فما إن تبدأ الجملة بالفعل الماضي حتى تسافر إلى زمن (الماقبل) ويستمر هذا السفر لأشهر وربما لسنوات لا يستقر الكاتب في الحاضر إلا للوازم البقاء على قيد الحياة. أما تفكيره وتأملاته وقراءاته فهي في زمن الرواية المتخيلة.

يدور مع شخوصها حيث داروا رجوعاً وتقدماً وتوقفاً وصعوداً وهبوطاً.والحاضر للكاتب عموماً أشبه بمحطة ينتظر فيها القطار الذي سيأخذه إلى تفاصيل الفكرة التي ارتمت عليه، وما إن يحقق مقاصدها وتفاصيلها وينتظر نهايتها، حتى يرجع إلى محطة الانتظار نفسها لتأتي فكرة أخرى ورحلة أخرى.

وقد تتجه الفكرة إلى مستقبل متخيل والعيش في زمن الآتين. يذهب معهم إلى أقصى مدى خياله، عشرات أو مئات السنين، وربما أكثر، كما في (رسالة الغفران) لأبي العلاء المعري التي ذهب فيها إلى ما بعد الموت "وهي رسالة تصف الأحوال في النعيم والسعير ومواقع الشخصيات هناك.

وقيل إن دانتي أليغييري، صاحب الملحمة الشعرية (الكوميديا الإلهية) أخذ عن أبي العلاء فكرة الملحمة ومضمونها".

وهي أيضا الفكرة التي بنى عليها الشاعر اليمني الشهير محمد محمود الزبيري مسار روايته الوحيدة (مأساة واق الواق) أواخر الخمسينات وفيها تخيل منازل المناضلين اليمنيين في الجنة.ومنازل النار للظالمين والقتلة من آل حميد الدين وحاشيتهم، حكام شمال اليمن وقتها.*

الأدب لا أطر محددة فيه ولا معقولية أحيانا وإنما خيال جامح ومتخيل يدنو ويبتعد، في حالة من السيولة الزمنية غير الثابتة وعوالم ليس لها وجود.

وهنا تكمن روح الإبداع الساحر. به استطاعت شهرزاد أن توقف جماح شهوة وعبثية القتل عند شهريار فيما عرف بقصص (الف ليلة وليلة) التي تحكي "قصة ملك يدعى شهريار، اكتشف أن زوجة أخيه كانت خائنة. الا ان صدمته الكبرى كانت عندما اكتشف أنّ زوجته تخونه أيضا.

فقرّر إعدامها، ورأى أن جميع النساء مخطئات، لا امان لهن. وكان يزوج من العذارى، يومياً، ويقتل العروس ليلة العرس، قبل أن تأخذ الفرصة لتخونه.

بعد فترة لم يجد الوزير الذي كان مكلفاً بتوفير عروس للملك، مزيداً من العذارى. عندها عرضت ابنته شهرزاد نفسها لتكون عروساً للملك، فوافق أبوها على مضض.

وفي ليلة زواجهما، بدأت شهرزاد تحكي حكاية للملك ولكن لم تنهها، مما أثار فضول الملك لسماع نهاية الحكاية، ودفعه بالضرورة إلى تأجيل إعدامها، وفي الليالي التالية، عندما تنتهي من حكاية ما تبدأ بحكاية جديدة، تشوق الملك لسماع نهايتها هي الأخرى وهكذا، حتى أكملت لديه ألف ليلة وليلة".

هذه الليالي ما زالت تسافر عبر الأجيال والشعوب إلى يومنا هذا بسحرها واساطيرها واحداثها الواقعية والمتخيلة. تطبع وتترجم إلى معظم اللغات الحية وتُنسج على منوالها وتأثيراتها اعمال ادبية جدية لأزمنة جدية.

منها رواية رمل الماية (فاجعة الليلة السابعة بعد الالف) للروائي الجزائري واسيني الاعرج.ولا ننسى المغرم الكبير ب(الف ليلة وليلة)..

الكاتب الفرنسي مارسيل بروست الذي الف (البحث عن الزمن المفقود) "الرواية الضخمة التي صدرت مطلع القرن الماضي وبلغت سبعة مجلدات وتتوزع على 4300 صفحة وتحتوي على مليون ونصف المليون كلمة وعدد شخصيات الرواية 2000 شخصية.

بسبب هذه الرواية وصف (غراهام غرين) بروست بأنه "أعظم مؤلف في القرن العشرين"، أما (سومرست موم) فقد وصف الرواية بأنها "أعظم عمل خيالي" رغم أن بروست مات دون أن يتمكن من إنجاز النسخة النهائية من الرواية وتركها على شكل مسودات راجعها أخوه روبرت ونشرها بعد وفاته"(البحث عن الزمن المفقود) كما يقول الكاتب العماني نزار سالم: عبارة عن رحلة سائلة في الزمن الخارجي وما تعلق منه مع لزوجة الزمن الداخلي المتواشج مع كينونة الوجود للكاتب ومن حوله من بشر وحكايات وموسيقى وفن وأحداث منذ شبابه حتى كبره وشيخوخته.

يقول مالكولم بوي: "الكتاب كله قصة بحث روحي ناجح مرّ الراوي فيه عبر العالم الساقط، المليء بالكذب والخداع، والمظاهر الاجتماعية والرغبات الجسدية القلقة، من المحن الروحية التي يواجها عادة الساعون وراء الحكمة والفضيلة"قراءة (البحث عن الزمن المفقود) رحلة ذائبة في زمن متداخل مع أضداده من الأزمنة، زمن رجل مستفيق أو نائم مغموس في زمن أناس مستيقظين، وزمن حالم مشرع في عالم مجهول يتدفق في إغفاءات النوم ليخلق أكثر من زمن.

زمن يهبنا حيوات أخرى منبثقة من تلك الصور المتخيلة والمفترضة لزمن تتعدى حدوده كل الأزمنة. والخلاصة، أن الأديب والكاتب دائما في مربع السفر.. مسكون بالرحيل والترحال في الذات والمحيط.. السنوات محطات والناس والحب والزواج محطات والمدن محطات. الماضي والحاضر والمستقبل محطات للوقوف والعبور.

وبهذه الديناميكية يستطع الكاتب أن يواصل عطاءه وإبداعه المتوالي لا توقفه الا محطة الموت الأخيرة التي لا مناص منها. ليبقى ما أبدع من الخالدين.