فنون

الخميس - 18 يونيو 2020 - الساعة 08:38 م بتوقيت اليمن ،،،

مدى الثقافي/ سليم البيك*:


ليس من السهل حمل فكرة فلسطينية، ترسخت في الذهن الفلسطيني، إلى فيلم قصير أبطاله أطفال ومجاله كرة القدم. كأي عمل فني، يمكن قراءة فيلم «إجرين مارادونا» للفلسطيني فراس خوري بتأويلات عدة، بإحالات يمكن (جداً) أن لا يكون للسياق الفلسطيني أي حضور فيها، وإن احتوى الفيلم على أغنية من الثورة الفلسطينية تقول: ثوري ثوري يا جماهير الأرض المحتلة، أغنية ثورية صارت جزءاً من التراث الفلسطيني الحديث. هي جد فلسطينية لكنها أتت لترافق تصويراً وقصةً لا «فلسطينةَ» جاهزة فيهما.

طفلان يجمعان صور لاعبي كرة قدم للصقها في ألبوم يحوي صور لاعبي جميع الفرق في مونديال 1990، الذي نال الكأس فيه الفريق الألماني، أثناء المونديال. وكان الطفلان «البرازيليان» ينقصهما، لإكمال الألبوم، صورة رِجلَي الأرجنتيني مارادونا، عدوهما هما، وكل البرازيليين آنذاك.
على طول الفيلم القصير (23 دقيقة) يبحث الطفلان عن الصورة المفقودة ليكملا الألبوم وينالا الجائزة، وهي لعبة أتاري وكرة قدم وحقيبة مونديال. يجدانها أخيراً ويذهبان لتسلم الجائزة.

بتصوير تسعينياتي جميل وأداء تلقائي من أطفال/أبطال الفيلم، سرت الفكرة شديدة الفلسطينية، بموازاة سعي الطفلين لنيل الصورة المفقودة، فكرة مأخوذة من سطر لمحمود درويش في قصيدته «لو كنتُ غيري» يقول فيه: «إنَ البيتَ أَبعدُ، والطريقَ إليه أَجملُ». «الطريق إلى البيت» كان سعي الطفلين في البحث عن الصورة المفقودة، الصورة الناقصة لإكمال الألبوم. البيت ذاته كان الجائزة: الأتاري والحقيبة والكرة. الطريق إلى البيت صار الغاية بعد إكماله بذاته، بالاستحواذ عليه كاملاً، هو الألبوم بكل صوره. البيت، وقد كان الغاية/الجائزة، وكان ما بُذل جهدٌ لأجله، استُبدل بالجهد المبذول وقد استقر، والمكتمل بذاته ليصير هو (الألبوم/الطريق) الهدفَ (الجائزة/البيت).

سأُبقي الإحالات في مجازاتها (البيت والطريق) ولن آخذها إلى الفكرة التي أحال لها سطر درويش الشعري، وهو الوطن والطريق إليه، بما في ذلك من ثورة وانتفاضة. سأبقي الإحالات في مجازاتها لأخوض أكثر في الفكرة، حيث يصير الطريقُ البيتَ، ويكون السعي إلى أي شيء أجمل من الشيء. وصار (أخيراً) ما قاله درويش في القصيدة ذاتها: «لو كُنْتُ غيري لانتميتُ إلى الطريق» (ودرويش هو غيره).

انتماءات الفلسطيني عديدة، مشتتة بتشتته، داخلياً وخارجياً، ذهنياً ومكانياً، وهذه تؤدي بالفلسطينيين إلى انتماء لما هو طريق إلى حالة/مكان الانتماء، وهذا يؤدي بهم إلى الافتتان بالثورة، بالانتفاضة، بشتى حالات الصمود والمقاومة، بتعقيدات المنفى والشتات، بالانتماء الرومانسي والمركب والمتناقض للوطن، للساكنين داخله أو خارجه، لعارفيه كمكان ولعارفيه ككلمة. هذا السعي كله إلى نيل فلسطين «المشتهاة» المستحيلة، وقد أدرك الفلسطينيون هذه الاستحالة، صار هو الغاية، صار هو الأجمل من الطريق، صار هو حالة الاستمرار للمؤقت التي رغب الفلسطينيون باستقرارها، بثبوتها، فرفض الطفلان الجائزة واحتفظا بالألبوم، خرجا من عند موزع الجوائز وقد «لطشا» الألبوم من يده عائدين به إلى بيتهما، ليضعاه على الرف مفتوحاً على صفحة مارادونا، بصورة رجليه، وهي الجائزة التي أقاما «ثورةً» للحصول عليها، بدون أن يستبدلاها «بدولة» تأتيهم جاهزة، على شكل أتاري، ستتعطل أو كرة ستُعطب أو حقيبة ستُسرَق.

قد لا يشعر أحدنا بكل ذلك أثناء مشاهدة الفيلم. نحن نرى الطفلين يبحثان عن الصورة لدى أطفال آخرين، وأنا واحد من هذا الجيل الذي جمع هذه الصور في المونديال، قبل ثلاثين عاماً (وإن لم أكمله يوماً) وأعرف معنى أن تنقصك صورة أو اثنتين. وكنتُ أشجع إيطاليا التي «أهدتنا» الكأس في بطولة عام 1982. الطفلان هنا لم يفعلا حتى ذلك، كان تشجيعهم للبرازيل «كروياً» بامتياز، وكانا على طول الفيلم مخلصين للبرازيل وللمونديال، فكانا في سيارة التاكسي المتوجه إلى الناصرة كي يجدا رجلَي مارادونا، مندمجين مع مباراة بين رومانيا والأرجنتين، مع سائق «أرجنتيني»، فصرخا فرحَين حين دخل هدف في مرمى الأرجنتين، متجاهلين تماماً سيطرة «راديو الانتفاضة» على البث لثوانٍ. لم يكونا طفلين فلسطينيين هنا بل برازيليين، لكن ذهنية الفلسطيني ظهرت أخيراً، في سلوك طفولي استعاد الألبوم/الطريق وأبقاه معلقاً لأن هوية الفلسطينيين تشكلت، بطريقة أو بأخرى، به.

٭ كاتب فلسطيني ـ سوريا (القدس العربي)