كتابات

الأربعاء - 11 نوفمبر 2020 - الساعة 10:55 م بتوقيت اليمن ،،،

مدى برس/ متابعات:


يستوحي الروائي التونسي الحبيب السالمي حدثًا واقعيًا، في بلاد الغربة، ليثير جملة من الأفكار حول الهوية والحنين إلى بقعة المنشأ، بما تحمله من ذكريات وأصالة التكوين للإنسان، في روايته ”الاشتياق إلى الجارة“ الصادرة عن دار الآداب 2020.

وتنصب الرواية حول البنية الثقافية والاجتماعية العربية كأساس، صانعة مقاربة مع الثقافة الغربية في التعاطي مع المغتربين العرب في الدول الغربية، حيث تتركز الأحداث في بناية تقع في مدينة باريس الفرنسية، يستخدمها الروائي كصندوق مغلق، تدور داخله التجاذبات، بشكل محصور، معطية زخمًا دراميًا، مثيرًا للتساؤلات والتنقيب. ذلك البحث في حيثيات نشأة الشخصيات وطبيعة تغذيتها الاجتماعية من الصغر، يعتبر منطقة التلاعب الروائي التي يهدف إليها السالمي.

هدوء

راوي العمل هو نفسه بطل الرواية، المحاضر الجامعي سي كمال عاشور. رجل ستيني، يجمعه احتمال عشوائي بالسيدة الخمسينية زهرة، التونسية الأصل، التي تسكن معه البناية نفسها، وكلاهما ذاق مرارة الهجرة من تونس إلى فرنسا.

وفي السابق أخذت الحياة التي يحياها سي كمال مع زوجته الغربية بريجيت، خطًا هادئًا، يخلو من الصراع والتقلبات. بينما ترعى زهرة الخادمة، غير المتعلمة، طفلها المعاق، وتتعايش مع زوجها غير المستقر في الطباع والقوى العقلية.

توصيف واختصار

لغة الرواية، كما في منشورات السالمي السابقة، لغة بسيطة، مختصرة، متجهة دائمًا نحو المركز. حتى في اختيار شخصياته، كان حاصرًا معظم أفكاره في شخصيتي كمال وزهرة. كما أن البُعد المكاني مشى على الخطة نفسها، فكل الأحداث تدور داخل العمارة السكنية.

واستخدم السالمي مهارته الثاقبة في الوصف، لتفصيل ملامح وطباع وهواجس الشخصيات، وكذلك رسم العمارة بجدرانها ومدخلها في ذهن القارئ، لقد كان متمكنًا في ذلك.

الرواية المقسمة إلى عدة فصول قصيرة، والممتدة على 206 صفحات من القطع المتوسط، كانت متماسكة في البنيان الدرامي، وشهدت صعودًا تدريجيًا، في وتيرة الحدث، وكان الكاتب يحرك الشخصيتين ومن حولهما الشخصيات الثانوية، بروية ودراية.

بداية الربكة تكون بأن يتجنب كمال الاحتكاك بالسيدة زهرة، لتخوفاته القائمة على معايير الطبقة الاجتماعية والفارق في مستوى التعليم. لكن لحظة فارقة كانت كفيلة لتغيير نمط المعاملة، إذ يشعر كمال بالألفة والأمان لحظة تعامله مع زهرة في كل مرة يلتقيان صدفة، إضافة إلى لمسه لفطنتها في تسيير الحوار بينهما. بذلك تبدأ مشاعر الاحترام تحل محل حالة التجنب التي كان يصدرها في وجهها.

لحظة انعطاف

أما وقت الصدمة الذي أصبح مفترق طرق لتغيير مسار دراما الرواية، جاء عندما وجد كمال في بيت زهرة لوحة فنية أثارات حسده، ”استرعت انتباهي لوحة فنية تمثل صورة امرأة، اكتشفت فيما بعد إنها صورتها. كانت معلقة على الحائط مقابل الكنبة، إلى جوار صورة رسمت فيها بخط كوفي جميل (بسم الله الرحمن الرحيم). لم أكن أتصور أن أجد لوحة فنية في بيتها، أعترف أني شعرت في لحظة خاطفة، بما يشبه الحسد، فأنا لا أملك أي لوحة“.

عوامل كثيرة دفعت سي كمال للتقرب من زهرة، أولها عدم التوقع الصحيح. فهو من سابق إلى رسم توقع مسبق عن شخصية زهرة، حسب مسوغات العقل لديه بأنها بسيطة في الوضع الاجتماعي، والقدرات العقلية، لكن الدهشة كان لا تقاوم، بعد بدء معرفة القليل عن حياتها. بالإضافة إلى ذلك، حافظت زهرة بعد خمسة عقود من وحشة الحياة على رشاقة جسدها، وطغت الأنوثة على ملامحها، وهو ما أكمل إغلاق الدائرة حول كمال. فتحولت الرغبة المتقافزة بينهما إلى لعبة كراسي موسيقية، وكان الحب، ”أدركت أن ما بيني وبينها تجاوز لعبة الإغواء البريئة، إلى ما هو أقوى، وسرعان ما فهمت أن الإحساس اللذيذ الذي بدأ يتسرب إلى نفسي من فترة، هو الحب“.

الهوية

جانب آخر حيوي يمكن استنباطه من العلاقة الغريبة، وهو ميل الإنسان إلى استرجاع هويته الأصل، مهما تكاثف الغبار على فروعه، فإنه يتوق دوما إلى لحظات تعيد هويته. فكمال الذي هاجر من بلاده، يشعر بأن زهرة وطن مصغر، يمكنه العيش فيه واستنشاق الهواء داخله، في بلاد المهجر.

إن ما امتلكته تلك المرأة من الطباع، أعاد لذهن كمال المخزون القديم عن المرأة في العالم، امرأة تونس الوطن التي كانت بذرة إحساسه الأول بالعاطفة، وذكرياته في الشباب.

جذور

في ذهن كمال نبتت قضية أخرى بعدما ارتبط بزهرة عاطفيا، وهو أن هنالك جذرا مهما ضعف، ومهما طوته السنين، فإنه غير قابل للقطع، ذلك الجذر هو الحنين لكل تفاصيل الأرض والوطن والهوية. تقول الرواية على لسان زهرة:“لابد أن يكون لك بيت في بلدك،. لا يجوز ألا يكون لك بيت في تونس.. كل ما تمكله خارج بلدك، لا يساوي شيئًا أمام ما تملكه في بلدك“.

الاغتراب وصراع الثقافات

فكرة الاغتراب التي تناولها الكاتب في رواية ”نساء البساتين“كانت محورا في هذا العمل أيضا. فغربة كمال كانت الإحساس الدائم في فرنسا، على الرغم من عيشه في هذه البلد لسنين طويلة، إلا أنه كان دائم التفريق بين كونه مواطنًا فرنسيًا، وشخصًا يحمل هوية تونس التي تحيا داخله. يكتب السالمي:“المصيبة تكون في بعض الأحيان فرصة لتذكر أحزان قديمة لم نستطع تجاوزها، وظلت دفينة في نفوسنا“.

صراع الثقافات أيضًا، حاضر في هذا العمل، ويتكلل بحوارات بريجيت وكمال، بما يحمله كل منهما من خلفية فكرية نابعة من الأصول. فالقناعات التي يحملها المجتمع العربي تجاه العرب المقيمين في أوروبا، وبشكل عمومي، لمس كمال من خلالها كم العنصرية التي يحملها الغرب تجاه العرب.