تفاصيل

الثلاثاء - 08 يونيو 2021 - الساعة 09:37 م بتوقيت اليمن ،،،

مدى الثقافي/ ريم غنايم*:


يُعتبر الأدب السّودانيّ، الذي ما زالَ حضوره هامشيًا، في المشهد الأدبيّ العربيّ الحديثّ، واحدًا من أهم وأخصب الكتابات التي عرفها الأدب المكتوب باللغة العربيّة. وقد نجح هذا الأدب، على هامشيّة حضوره في المشهد الأدبيّ العربيّ، أن يقدّم نماذج أدبيّة هامّة، على المستوى القصصي، والروائيّ، بخروجه من رداء المحليّة، منطلقًا نحو ابتكار أساليب فنيّة مميّزة، أخصَبت الأدب العربيّ وأبرزت قضايا هامّة، هويّاتيّه ونفسيّة وسياسيّة واجتماعيّة، للمجتمع السودانيّ. ولا أبرز من هذه النماذج من الأديب السودانيّ المعروف الطيّب صالح، صاحب رواية موسم الهجرة إلى الشّمال (1966) ، الحائزة على عدّة جوائز عربيّة وغير عربيّة، إلى حدّ تمّ تصنيف روايته كواحدة من أهمّ 100 رواية في العالم.

نموذج الطيّب صالح ليسَ النموذج الوحيد الذي يشكّل حالة أدبيّة فريدة أسلوبًاومضمونًا. فقد تمكن في السنوات الأخيرة، بعد انقطاع طويل للصّوت السودانيّ المميز في المشهد الأدبيّ العربيّ، عدد من الأدباء السوادنيين، الذين يقيمون في السودان وخارجها، من انتزاع مكانة وحضور للصوت الأدبيّ السودان في الأدب العربيّ، والمتمثّل بأساليب فنيّة خاصّة أسبغت خصوصيّة على اللغة وعلى المضامين، مع قدرة نافذة على استحضار صوت المجتمع السودانيّ ومعضلاته النفسيّة والسياسيّة والاجتماعيّة بقوالب فنيّة أثبتت حضورها وتمكّنت من التسلل إلى جوائز عربيّة عديدة، نذكر من هذه الأصوات الروائي السوداني أمير تاج، والروائيّ عبد العزيز بركة ساكن، والروائيّ حمّور زيادة، جميعهم من مواليد السودان، ويقيمون اليوم خارجها.

على اختلاف الأجيال، وطرق الكتابة، إلا أنّ ثمّة قاسمًا مشتركًا يجمع بين هذه الأصوات في الأدب: سعيها لإيصال الصّوت السودانيّ للحياة الهامشيّة، أو المهمّشة في السودان، المرض، الطفولة المقتولة في أحضان الفقر والبؤس، العنف الممارَس على كافة أطياف المجتمع اللامرئيّ أو المقموع -القادم أساسا من القرى والضواحي- بشكل مباشر وغير مباشر، من قِبَل النظام القمعيّ، في محاولات مستميتة للخروج من عباءة المَوت المخيّم على الطبقات المقموعة والمكبوتة جنسيًا ونفسيًا وماديًا. في ظلّ التحوّلات السياسيّة والاقتصاديّة الهائلة والخطرة التي تمرّ بها السودان اليوم، لا بدّ وأن تظهر أقلام أدبيّة تدفع قدمًا بهذا الأدب، وتشدّ أزره وسط فسيفساء الأصوات الأدبيّة التي يقدّمها الأدب العربيّ اليوم، أصوات قادمة من عوالم وهويّات مختلفة تؤكّد حضورها كأقليات واعية لقضاياها.

منصور الصويّم، هو صوتٌ سرديّ آخر لافت، ينضمّ إلى موكب الأصوات الأدبيّة القادمة من السّودان، والتي حقّقت في السنوات الأخيرة حضورًا مميزًا جالبةً معها قضايا حارقة داخليّة من قلب المجتمع السوداني إلى قلب اللغة العربيّة التي اتّخذت صبغة شعريّة دون الإخلال بالعالَم السردي الروائيّ للرواية. الصُويّم روائيّ ومحرّر وكاتب صحفي من مواليد عام 1970 في مدينة نيالا، السودان. تُرجمت نصوصه الأدبيّة إلى الفرنسية والانجليزيّة والسويديّة. وقد صدرت له عدّة أعمال روائيّة: تخوم الرماد 2001. ذاكرة شرير 2006. أشباح فرنساوي 2014. آخر السلاطين، 2014. عربة الأموات، 2016.

حاز الصويم على جــائزة الطيب صالح للإبداع الروائي 2005 عن رواية ذاكرة شرير المترجمَة إلى الفرنسيّة، وتصدر قريبا بالعبريّة.

الكتابة عند منصور الصويّم هي كتابة سرديّة حادّة تطرح مقولات وأبعادًا عميقة الرؤية حول المجتمع السوداني بطبقاته، يميلُ فيها الكاتب إلى وضع اصبعه على الملفات الحساسة والحارقة لشريحة الشّماسة، أو أطفال الشّوارع، وهي من شرائح المجتمع السودانيّ ال"منبوذة" والمهمّشة، نافذًا من خلالها إلى عوالم أخرى تكشف عن خطاب الوهم والخيانات الدّجل والسّحر والشعوذة للثقافة الدينيّة الشّعبيّة، ولعالَم هائل من الفساد والضياع في متاهات متع الجسد، والزّيف يسندهما الفقر والجهل الجماعيّ الذي أدّى إلى ترسيخ وشرعنة ظواهر كثيرة باسم الدّين، والسّلطة. هكذا، وعبر عَين كَسحي، الولد الشماسيّ، طفل الشوارع، اليتيم، المعاق، اللامرئيّ عديم الصّوت، يبدأ صوت السّارد، رحلة التفاصيل والنضوج والاكتمال في عالَم الشّوارع الذي يعجّ بالنّساء والأطفال والرجال والشيوخ ورجال الشّرطة، أعوان النّظام، من عالَم البراءة والوهن والضّعف، إلى عالَم يصبحُ فيه الولدُ شيخًا، يتعلّم مهارات "الصّنعة" الصّوفيّة، ويدخل في متاهة الأوهام اللانهائيّة للفسق والفجور والفساد واللهاث وراء الجسد والمال والقوّة.

الوَهم. كلمة مفتاحيّة تتكرر في هذا الكتاب. ولعلّها أكثر مفردة يخاطب عبرها الرّوائيّ منصور الصويّم كل العوالم التي يطرحها بوصف شديد الدقّة حول أوهام الدّين التي أنتجها الجهل الشعبيّ وثقافة التبعيّة الجمعية التي لا يمكنها إلا أن تجذّر مأساة المجتمع وتؤصّل المآلات الكارثيّة التي رسمها الكاتب بعناية لغويّة فائقة.
رواية مفخخة في لغتها وثيماتها.

*كاتبة فلسطينية