كتابات

الأربعاء - 14 يوليه 2021 - الساعة 11:12 م بتوقيت اليمن ،،،

مدى الثقافي/ د. محمد المخزنجي*


يقولون إننا سنُسأل فى الآخرة عن أي امرأة نحب أن تعيش معنا في الجنة من بين كل النساء اللاتي عرفناهن فى الدنيا. ولو تصورت أن هذا السؤال يوجه لي لاخترت، رغم كل شيء، وبلا تردد: «أندرولا». «أندرولا» التي لم أعرفها غير ثلاثة أيام، مسافة إبحار سفينة الرحلات المتمهلة من استانبول حيث صَعدَت، إلى لازناكا- حيث هَبطَت، بينما كنتُ أنا قادمًا من أوديسا ووجهتي الاسكندرية.

كانت من العذوبة والبهاء والدفء بحيث تجعل الإنسان يتألق أمامها، فيصير ألطف وأكفأ مما عرف نفسه أو عرفه الناس فى حياته كلها.. يتفوق على نفسه ويعطي أفضل ما عنده فى كل شيء. هذا، إذا وقع فى دائرة بهائها مثلما وقعتُ ونحن نأوي إلى قمرة واحدة وفى مهجعين متجاورين بالطوابق الأولى من أسرَّة السفينة.

كانت لا تترك من يدها «كمنجة» بنفسجية الغلاف ألححتُ عليها مرارًا فى النهار أن تسمعني عزفها، لكنها ظلت تتهرب. وفى الليل كففتُ عن إلحاحى إذ كنا ننقل وسائدنا إلى الأطراف المتقاربة من المهاجع ونقضى سواد الليل كله نتهامس حتى لا نزعج النائمين معنا فى القمرة. ونزحف على بطوننا لنختلس القبل التي لن يغادر طعمها الحلو فمى، أبدًا، مهما حييت.

ولما كانت سفينتنا تقترب من لارناكا التى تبدو عمائرها البيضاء طافية فوق الماء بغير أرض، قلتُ لها ضاحكًا بجدية لم أثق بمثلها عمرى: «أندرولا.. اختاري.. إما أن تقولي للارناكا وداعًا وتواصلي معى حتى الاسكندرية. أو أقول أنا للإسكندرية وداعًا وأهبط معك فى لارناكا؟».

قالت بضحك لم أر حزنًا مثله أبدا: «جميل.. أجيء أنا معك ويذبحنى أهلك! أو تجيء أنت معي ويذبحك أهلي! ماذا تختار؟». ولما رأت دهشتي إزاء لغة الذبح هذه، أسرت لي فى تأثر شديد بأن أباها القبرصي اليوناني قتله القبارصة الأتراك وعلقوه مشنوقًا فى عارضة باب محل الفواكه الذى يمتلكه عند الخط الفاصل. وعندئذ انتابتها توترات جنونية، وأخذت تضرب إفريز شرفة غرفة الحبال الخلفية التى توارينا فيها بصندوق الكمنجة، ضربات عنيفة حتى انفتح.. وإذ بداخله بندقية.

لم أحس أبدًا مع مفاجأتي بأنها كذبت عليّ أو أننى خُدعت. بل أحسست أكثر بالحزن والألم لكونها مثقلة بهذا الوزر، وإلى هذا الحد. وقلت لها مشيرًا إلى الصندوق قبل أن ترسو السفينة: «ليتك تلقيه فى البحر يا أندرولا». فنشجت وهي تردد: كم أحب لو ألقيه فى البحر. آه كم أحب».

وعندما كانت السفينة تستدير عند لارناكا عائدة إلى البحر، لم تعد عندي أندرولا. ولكم شعرت بالوحشة، وبالفجيعة.. أصابتنى حمى مفاجئة واكتئاب شديد، حتى إنني لم أهبط مع سائر الركاب للإطلال على اللاذقية التي أحبها. ومكثت وحدى فى قاعة القمرة الخالية.

* اكاديمي وكاتب مصري / صفحته فيس بوك