فنون

الإثنين - 26 يوليه 2021 - الساعة 05:42 م بتوقيت اليمن ،،،

مدى الثقافي/ العرب:


تستمر السعودية في كسر الصورة التقليدية التي عرفت بها تاريخيا، وهذه المرة من خلال إقامة ورشة كبيرة لإنتاج المنحوتات التي ستُعرض بعد اكتمالها في الأماكن العامة، حيث تتحوّل العاصمة الرياض إلى معرض فني بلا جدران ويكون الجمهور العادي على اتصال مباشر سواء أثناء أيام الورشة وبعدها مع عالم لم يعهدوه من قبل بل كان محكوما بقيود التحريم.

وأعلن المشرفون على مشروع “الرياض آرت” عن اختيار عشرين فنانا من دول عربية وأجنبية للمشاركة في النسخة الثالثة من ملتقى طويق الدولي للنحت في الخريف القادم. وكان ذلك المشروع قد توقّف بسبب الوضع الطارئ الذي فرضه انتشار جائحة

والجديد في هذا الملتقى أن الفنانين يعملون في الهواء الطلق بما يسمح بإقامة حوار مباشر مع الجمهور الذي ستُتاح له فرصة مشاهدة العملية الإبداعية في مراحل تشكّلها والتعرّف عليها عن قرب، بالإضافة إلى تقديم برامج متنوّعة تتضمّن مجموعة من الحوارات العامة والفعاليات.

ومن شأن الحوار المباشر مع الفنانين أن يُتيح مناقشة الأفكار المسبقة لدى شريحة من السعوديين تقيس الواقع بالنظر إلى الماضي، وتربط بين النحت والتماثيل القديمة دون مراعاة تغيّر الوقت وتطوّر الفكر وطريقة النظر إلى الأعمال الفنية بمعزل عن الأفكار الجاهزة. لكن الأهم هو الانفتاح على الشباب والطلاب في المدارس وإعطائهم الفرصة للتواصل مع المبدعين ومعرفة هذا الفن عن قرب بدلا من اعتماد فتاوى تحريم صدرت عن جهات أو أشخاص لا يعرفون النحت ومقاصده كفن.

روح جديدة

يقول المنظمون إنه سيتم عرض كل عمل من الأعمال عند اكتماله لمدة خمسة أيام بعد انتهاء الملتقى خلال الفترة من الثاني وحتى السادس من ديسمبر 2021، ثم سيتم نقل المنحوتات إلى عدد من المواقع العامة حول مدينة الرياض، وذلك تجسيدا لرسالة مشروع “الرياض آرت” التي تهدف إلى تحويل المدينة إلى معرض فني بلا جدران.

ويُقام على هامش الملتقى برنامج تعليميّ يستضيف الزيارات المدرسية والجامعية لمتابعة مراحل صنع المنحوتات، وذلك لخلق تجربة تعليمية تثري معارف للطلاب لتعلّم أهم المهارات باستخدام المواد والأدوات والتقنيات، وتشجيع المعلّمين على استيعاب البعد المعرفي والفني الثري في تجربة النحت.

ويبدو الانفتاح على فن النحت جزءا من اتساع دائرة التنوير الثقافي التي شملت السينما والمسرح والغناء ضمن التحوّلات الكبرى التي تعيشها السعودية. وأساس هذه التحوّلات هو الانفتاح على القيم والمنتجات الفكرية والفنية الحديثة، والتخلص من التشدّد الذي طبع حياة السعوديين لعقود وأعاقهم عن الاستفادة من تجارب الآخرين.

ويقول الناقد التشكيلي فاروق يوسف إنه ليس مفاجئا أن يكون هناك ملتقى للنحت المعاصر في السعودية. ليس فقط لأنها الدورة الثالثة للملتقى، بل وأيضا لأن ساحل مدينة جدة يعجّ بالمنحوتات منذ أكثر من ثلاثين سنة، وهي أعمال فنية نفّذها فنانون كبار في مقدّمهم وجيه نحلة وعارف الرئيس وآدم حنين. صحيح أن تلك المنحوتات تقيّدت بالأسلوب التجريدي من أجل تحاشي الاصطدام بشبهة تقليد الجسد البشري غير أن القيم الفنية التي انطوت عليها كانت مناسبة لخلق فضاء جمالي يوسّع المجال للتفكير في البعد المديني للحياة اليومية.

وأضاف يوسف في تصريح لـ”العرب” أن “من يعرف تاريخ وواقع الفن التشكيلي في المملكة، لا بد أن يكون قد تعرّف على النحات السعودي كمال المعلم الذي درس في إيطاليا وصارت منحوتاته جزءا من الطابع الثقافي المعاصر الذي تضفيه المملكة على مشاركاتها في اللقاءات العالمية، ناهيك عن عرض تلك المنحوتات في الأماكن العامة”.

وأشار إلى أن أعمال المعلم النحتية وصلت إلى مناطق بعيدة ما كان في إمكان النحات أن يصل إليها بنفسه لولا دعم المؤسسة الثقافية ورغبتها في أن يكون النحت واجهة للتعريف الثقافي بالمملكة.

وإذا كان المعلم قد استند إلى الطابع الرمزي من أجل إقناع عدد محدود من المتابعين بأهمية أن يكون هناك نحت في الحياة اليومية، فإن ملتقى “الرياض آرت” سينفتح على الأساليب الفنية كلها من غير التقيّد بأساليب وموضوعات بعينها.

ويقول المنظمون إن الملتقى سيعقد تحت شعار “شاعرية المكان” لاستكشاف الروابط بين المادة والفضاء والضوء والظل، وليكون منصة محفزة للفنانين لإنشاء منحوتات تتواءم مع بيئتها ومحيطها في حي جاكس بالدرعية، كما يعدّ فرصة لاحتكاك الفنانين المحليين الصاعدين بنظرائهم من الفنانين من مختلف أنحاء العالم.

وسيكون العمل المباشر وسط البيئة مناسبة بالنسبة إلى الفنانين القادمين من مختلف أنحاء العالم للتعرّف على إيحاء مكان مختلف، مكان تنطوي سعته على الكثير من الأفكار الماورائية.

ويتضمن 12 حلقة نقاش تجمع عددا من الفنانين والممارسين لمشاركة أفضل تجاربهم واستكشاف الروابط بين مدراس وتوجهات النحت المختلفة.

وكما أن البعد الجمالي حاضر بقوة في المشروع، حيث ستحظى العاصمة السعودية بالانفتاح على أفكار عالمية مجسّدة هي انعكاس لما تنطوي عليه من تأثير إلهامي، فإن البعد السياسي سيكون هو الآخر قائما من جهة تقديم صورة لعاصمة معاصرة لا تفصل بينها وبين المدن الكبرى المعاصرة أفكار جاهزة ليس لها أساس في العقيدة.

وكانت هناك فكرة قديمة تعتمد على التزيين عن طريق الفن، واليوم تحل محلها فكرة جديدة تتبنى التربية عن طريق الفن. وبناء على هذا المشروع فإن التربية البصرية تكون عامة ومباشرة تتخطّى مسألة التذوّق الفني إلى إعادة إنتاج شكل المدينة.

من ناحية أخرى فإن إقامة مثل هذه الملتقيات المتخصّصة ستكون عنصرا مشجعا للشباب السعودي لدراسة النحت وفهم تحوّلاته التاريخية وتجريب أساليبه المعاصرة.

وذلك يعني كما يقول يوسف أن كمال المعلم لن يبقى وحيدا، بل أن السعودية مقبلة على ظهور جيل جديد من النحاتين هو ابن مرحلة سياسية تكون السعودية فيها قد تحرّرت من قيود الماضي التي كبّلت قدرتها المتاحة على الاتصال بالعالم زمنا طويلا. ذلك جيل سيقف في موازاة جيل الفنانين المعاصرين الذين انغمسوا في تجارب فنون ما بعد الحداثة كالتركيب والتجهيز والأداء الجسدي وفن الأرض وفن الحدث وإنتاج الأفلام بتقنية الفيديو.

ومثلما وهبت السعودية العالم العربي كتّابا ورسامين كبارا من أمثال عبدالحليم الرضوي وصفية بنت زفر وطه الصبان وعبدالله الشيخ وعبدالله حماس، فإنها مؤهلة لأن يكون لديها نحاتون كبار أيضا.

وهو ما يمكن توقّعه إذا ما توسّعت دائرة الملتقيات الفنية التي تتمحور حول النحت وتكون بمثابة ورش عملية يساهم فيها نحاتون عالميون يحملون خبرات مختلفة هي جزء من الأثر الذي تتركه الثقافات من خلال تباين تجارب الأمم التي خلقتها.