تفاصيل

الثلاثاء - 30 نوفمبر 2021 - الساعة 07:54 م بتوقيت اليمن ،،،

مدى الثقافي/ نعمان المونسي:


وجدت نفسي فجأة في طابور تمام عسكري غير اعتيادي. بدلاً من وقوف الأفراد في صفوف مرتبة بعضهم وراء بعض، وقفوا جنبًا إلى جنب، وأكتافهم تكاد تلامس بعضها. وكنت أنا واقفاً في حالة انتباه في بداية الصف الأول من الطابور باتجاه البوابة الشمالية للمعسكر، مقابل مبنى القيادة مباشرة، وفي مواجهة ضابط السرية. صحيح أنه طابور غريب نوعاً ما، لكن لا يوجد أي شيء طبيعي في العسكرية، حدثت نفسي. لازالت صورة المعسكر عالقة في ذهني: مساحة شاسعة محاطة بالأسلاك الشائكة من جميع الاتجاهات. تتوسط المعسكر ساحة ترابية كبيرة تُجرى فيها التدريبات اليومية. يُؤمر المجندين بالتجمع في الساحة عدة مرات في اليوم للتدريب أو للاستماع إلى "محاضرات" عقيمة ومملة. الساحة محاطة بالعديد من المباني ذات الطوابق الارضية المستخدمة كمستودعات للتموين، مخازن للأسلحة والتجهيزات العسكرية، قاعة طعام، ومباني من طابقين تستخدم كسكن للجنود. 

مر قائد عسكري برتبة مقدم أمام الطابور الصباحي ثم رفع الجميع أيديهم لتأدية التحية بطريقة ساذجة، مضحكة، ومثيرة للسخرية في آنٍ واحد. كانت شخصية الضابط، بما تحمله من تناقضات مثيرة للاشمئزاز. أكثر ما يثير الانتباه هو أنه يرتدي زيًا عسكريًا أنيقًا، بينما يغطي رأسه بوشاح (غترة)، لا علاقة له بالزي العسكري أو حتى الزي الوطني، بحيث بدا بقامته القصيرة كمواطن يمني، ولكن برأس سعودي أو إماراتي.

عادت بي الذاكرة إلى اللحظات التي غادرت فيها المنزل بعد أيام قليلة من إعلان نتائج امتحانات الثانوية العامة في عام 1985 لأداء الخدمة العسكرية الإجبارية. كان في وداعي حينذاك والدي، طيب الله ثراه. قال لي والدموع تملأ عينيه: يا ليت لو أنهم سمحوا لكم بمواصلة تعليمكم، بدلاً من ضياع عام كامل فيما لا منفعة فيه. لا أخفي عليك، يا ولدي، أنني أخشى أن يتم إرسالكم في مهمات قذرة لتعزيز مصالحهم الخاصة ومصالح أسيادهم، حتى لو كان الثمن هو التضحية بكم وبأرواح أناس أبرياء آخرين. كان ذلك في أواخر ثمانينيات القرن الماضي. لحسن حظ والدي أنه مات دون أن يرى ما هو أفظع.  فالشعب اليمني اليوم تائه، يبحث عبثاً عن صديق أو رفيق بين النخب السياسية والعسكرية والمدنية، إذ يحيط به حشد من الوجوه الغريبة المحمولة على أجساد يمنية، بعض تلك الوجوه ذات ملامح عربية والبعض الآخر ذات ملامح فارسية ولا فرق بين ذا وذاك، لذلك فهو لا يستطيع التمييز بين العدو والصديق.

 كان أحد الأشخاص الواقفين بجانب بوابة المعسكر بزيه المدني، يوجه أنظاره الفاحصة نحوي منذ الوهلة الأولى من انضمامي إلى الطابور. كنت منزعجًا من تحديقه المستمر في وجهي. بعد انتهاء التمام وانصراف القائد، أومأ اليّ ضابط السرية بالتنحي جانباً خارج الطابور وأخذ يؤنبني لأنني لم أؤدِ التحية العسكرية لضابط التمام. وعلى حين غرة أقترب منا الرجل في اللباس المدني. كان يبدو في العقد الرابع من عمره، حليق الذقن وأنيق الملبس. صافحني ودس في يدي قصاصة ورق مطوية بعناية. انصرف الآن واقرأها عندما تتاح لك الفرصة؛ بالمناسبة احييك على موقفك الشجاع فهذا القائد غير جدير بالتحية، أضاف بصوت يكاد لا يسمع. وبحركة غير مثيرة للانتباه، دفعت الورقة في جيب بنطالي ثم شكرته وانصرفت كما طلب مني محاولاً الانضمام إلى أفراد السَرية، بيد أن القائد كان قد أمر الأفراد بالانصراف إلى مكان التدريب. تبعتهم بخطوات سريعة وعندما اقتربت من مكان تواجدهم، لاحظت أن التدريبات كانت قد بدأت، عدلت رأيي ولم أنضم إليهم حتى لا أعاقب على التأخير. وبينما كان القائد منهمكاً بإصدار الأوامر لبدء عملية التدريب، وهو يعطيني ظهره، انتهزت الفرصة للعودة في اتجاه البوابة الرئيسية للمعسكر. عندما اقتربت من البوابة رأيت الرجل في اللباس المدني يتحدث مع أحد الأفراد، بصوت منخفض، ثم أتجه إلى مبنى القيادة. إنها مفارقة الأقدار؛ اصوات الحمقى اعلى من اصوات الحكماء. تمتمت في نفسي. كنت أحمل حقيبة يد سوداء لا أعرف محتواها. استدرت يسارًا نحو السياج، فلاحظت أن إحدى الأشجار، بفروعها الكثيفة، تغطي جزءًا من السياج الشائك. خطرت ببالي فوراً فكرة الهروب من المعسكر، بيد أن انتشار الحراس في جميع الأنحاء جعلني أيقن باستحالة تنفيذ الخطة في تلك اللحظات. عدت من جديد في اتجاه السَرية عبر طريق خلفي متعرج بجوار مخازن الأسلحة وورش الصيانة. واصلت السير متجاوزاً أفراد السرية ودخلت مبنى ذي طابقين وعند صعودي إلى الطابق العلوي قابلتني فتاة في حدود الثلاثين من عمرها، متوسطة القامة، وذات عيون عسلية واسعة وقد كانت هي الفتاة الوحيدة في المعسكر. بادرتني بالقول: إذا كنت تبحث عن الأرشيف فهو هناك، مشيرة إلى إحدى زوايا العنبر.

اتجهت صوب الأوراق التي كانت متناثرة على الأرض في زاوية العنبر. أخذت حزمة، مطوية على هيئة أنبوب من الورق الأبيض المقوى، مربوطة بخيط عتيق، فتحتها وبسطتها على الأرضية الاسمنتية. احتوت الحزمة على نصوص مكونة من أحرف مبعثرة وملصقة بشكل غير محكم. للوهلة الأولى، بدا لي أنها كتبت في عصور قديمة، لكن عندما قرأت بعضها، اتضح لي أن أقدمها قد لا يتجاوز عمره خمسة عقود. قرأت مثلاً:

أبريل 1958: عدن تشهد إضراباً عاماً بسبب الغلاء وتدفق الهجرة الأجنبية إلى المدينة…

26. سبتمبر 1962: قيام الثورة والإطاحة بالحكم الملكي، وإعلان النظام الجمهوري…

24. فبراير 1963: عقد في دار السعادة بصنعاء مؤتمر حضره أكثر من 1000 شخصية سياسية واجتماعية….

حين بدأت في اعادة طي الورقة، جاءني شخص ما وطلب مني أن أتبعه إلى إحدى الغرف المجاورة. كان في الغرفة ستة أفراد يقومون ببعض الترتيبات بطريقة عشوائية غير منظمة. وفي تلك الأثناء، لاحظت أحد الأشخاص واقفاً في ممر مجاور. لوحت له لكنه تجاهلني، ثم فتح الباب الذي كان يقف بجانبه واختفى عن الأنظار بعد أن أغلق الباب خلفه. أزعجني ذلك التصرف، فذهبت نحوه لأعبر له عن استيائي من سلوكه غير اللائق. وحين فتحت الباب الذي انزلق من خلاله، أصبت بالصدمة، لم تكن هناك أي غرفه خلف الباب، بل مجرد حائط أصم. تمتمت كالمعتوه "يبدو أنها إحدى بوابات الجحيم". عدت إلى الغرفة التي كانت على ما يبدو تُعد للاحتفال بمناسبة ما. ظلت الفوضى هي السائدة في الغرفة، كومة من المصابيح المتهالكة على الأرض مطلية باللون الأخضر، يحاول بعض الأفراد تجميعها وإصلاحها، لكن دون جدوى. في غضون ذلك، لاحظت نفس الشخص الذي عبر "من بوابة الجحيم" واقفا في زاوية الغرفة وبجواره شخص آخر معروف بأنه عضو في الحزب الحاكم، كانا يراقبان بصمت ما يجري في الغرفة. تجاهلتهما وغادرت الغرفة والمبنى باتجاه البوابة الرئيسة من جديد، وحين كنت بالقرب من البوابة تذكرت أنني تركت الأوراق في العنبر، فعدت لأخذها. قلبت الأوراق مرة أخرى، متسائلاً عما إذا كان من المنطقي أخذها معي، فحتى لو أخذتها، لا يمكنني حمايتها من التلف، لأن مهام كهذه لا يقوم بها أفراد، بل دولة بمؤسساتها المختلفة. علاوة على ذلك، ستكون هذه الأوراق عقبة أمام هروبي من المعسكر، لذلك تركتها وغادرت المبنى باتجاه البوابة للمرة الثالثة.

 كان ذهني مشغولاً بما هو مكتوب على قصاصة الورق وبمحتويات الحقيبة. استدرت يسارًا نحو إحدى البنايات المنخفضة ثم تناولت الورقة من جيبي وجلست وقدماي ممدودتان على الأرضية الترابية ومسنداً ظهري إلى جدار المبنى. فتحت الورقة بحذر. كانت هناك جملة واحدة فقط مكتوبة بخط رفيع لدرجة أنه يكاد لا يُرى بالعين المجردة وقرأت: "ينبغي أن تعلم أن بحوزتك كنوز الوطن وعليك الاحتفاظ بها جيداً". ارتعد جسدي عندما قرأت تلك الجملة. فتحت الحقيبة ويداي ترتعشان، وسحبت كومة من الأوراق المطبوعة على آلة كاتبة. أدركت على الفور أنها وثائق تاريخية مهمة. أعدتها سريعًا إلى الحقيبة وأدرت رأسي في جميع الاتجاهات للتأكد من عدم تمكن أي شخص من رؤيتي. استدرت مرة أخرى إلى اليمين ثم إلى اليسار فلاحظت كشك مهجور لا يبعد كثيرا عن البوابة. صعدت على طاولة بجانب الكشك ثم أمسكت بإحدى العوارض الخشبية المكوِنة لسقف الكشك محاولاً رمي الحقيبة إلى سطح الكشك، لكن أحد الأعمدة أمام قيادة المعسكر، بدأ بالاهتزاز لارتباطه بعمود الكشك عبر الأسلاك الكهربائية. خشيت أن يلاحظ الحراس ما أقوم به ويعتقدون أنني ازرع عبوة ناسفة، فما أسهل أن تكون متهماً في هذا البلد. يكفي أن يكون لديك رأي شخصي حول أمرٍ ما، تقوله بصراحة، ليتم اتهامك بأنك مفسد، أو مُلحد، أو عميل لبلد أجنبي، أو جماعة محلية، بحسب المكان والزمان، سيتم توجيه الاتهام المناسب لك. أصبحت الاتهامات موضة ومصدر لمكاسب مادية وسياسية وحتى معنوية، إلى درجة أن الحوارات بين الرفاق والأصدقاء غالبًا ما تنتهي بتهم مجانية، ربما من باب التحضير إلى مرحلة ما بعد استلام المناصب والمسؤوليات؟ لا أدري؛ المؤكد هو أن الاتهامات منتشرة بشكل واسع كالوباء. اليمنيون حقاً يتفوقون على كل الأجناس ويحطمون جميع الأرقام القياسية في قدراتهم الخارقة وسرعتهم في توجيه الاتهامات.

تأبطت الحقيبة وغادرت المكان بسرعة فائقة قبل أن يتم كشف مصدر الاهتزاز. كان الكشك يحجب الرؤية على أفراد الحراسة، لذلك ذهبت لمسافة قصيرة في الاتجاه المعاكس لبوابة المعسكر، ثم عدت مرة أخرى، من خلف أحد المباني، إلى المسار المؤدي إلى البوابة الرئيسية. في هذه الأثناء، كانت عيون الحراس موجهة نحوي، ولم يعد لدي من خيار آخر سوى محاولة المغادرة عبر البوابة الرئيسية للمعسكر. كان يجلس، على الساحة الصغيرة، أمام البوابة مجموعة من الأفراد، بملابس مدنية، وبينما كنت ماراً أمامهم، سمعت أحدهم يلقي بعض المواعظ الدينية. واصلت طريقي في اتجاه البوابة، حيث وقفت مجموعة أخرى من الأفراد بصورة غير منظمة، وهم يتحدثون معاً في آنٍ واحد مُحْدثين ضوضاء، يصعب على المرء أن يدرك موضوع حديثهم. نظرت إلى وجوههم، التي كانت مألوفة لي، لكنني لا أعرفهم معرفة شخصية باستثناء عاصم، أحد أبناء قريتي. تعززت معرفتي بعاصم بعد انتقالي من القرية إلى تعز لاستكمال دراسة المرحلة الإعدادية. كان يكبرني بعدة سنوات. وكان قد سبقني في الانتقال إلى تعز لمزاولة مهنة البناء، تلك المهنة المفضلة لمعظم أبناء القرية. كان يعيش في غرفة في الطابق الأرضي (دكان) لأحد المنازل في وادي المدام بينما كنت أنا أعيش مع أخوتي وبعض الرفاق في منزل مستأجر في قاهرة تعز، أسفل قلعة القاهرة. غالباً ما كنا نلتقي، خلال فترات المساء، في "بوفية" الإبي في شارع 26 سبتمبر، وهو المقهى الذي كان يلتقي فيه الشباب، خلال ساعات المساء، بصورة شبه يومية، وخاصة أولئك الذين لديهم ميول يسارية. كان الشيب قد غزاه وبدا لي منهك القوى بعد أن مصته الحياة القاسية وقذفته بعيداً كقطعة قماش مستهلكة. شعرت بمزيج من الحزن، بسبب حالته المؤلمة، والسعادة لرؤيته. تبادلنا التحية والسؤال عن الحال ثم بادرني بالقول: شيخ الدين الذي يتحدث مع تلك المجموعة هو رفيق سابق، وأشار بإصبعه نحو مجموعة الأفراد بجوار البوابة، ثم اتبع كلماته بقهقهة، ألا تتذكره؟ زميلك، درست وإياه الثانوية العامة في مدرسة الشعب، حاتم، هل تذكرته؟

بلى، أتذكره لكني لم أتعرف عليه بسبب لحيته الطويلة والتغيير الكبير في مظهره؛ لقد كان يساريًا لا يقبل المهادنة، أجبته، وسألته باستغراب: ما الذي دفعه إلى تغيير قناعاته والانتقال إلى الاتجاه المعاكس؟

هز عاصم منكبيه وظل صامتاً، فظننت أنه متردد في الإجابة على سؤالي، لكنه تنهد وقال: إنه الإحباط وخيبة الأمل يا صديقي. كما تعلم، أحدثت حرب 94 دماراً كاملاً. لقد دمرت الإنسان قبل أن تدمر الوطن، وقد نال الرفاق القسط الأكبر من ذلك الدمار. حاتم، مثل كثير من الرفاق الآخرين، لم يتحمل الصدمة. تحول الحلم الذي كنا نحلم به طوال حياتنا إلى كابوس. إن الفظائع التي اُرتكبت والتدمير البشري والمادي والنفسي ضد أبناء الجنوب تركت بصمات لا تمحى في ذاكرة الشعب اليمني عموماً وذاكرة أبناء الجنوب وأعضاء الاشتراكي اليمني على وجه الخصوص. وقبل أن يتعافى الاشتراكيون من صدمتهم وجدوا أنفسهم من جديد محاصرين بقوى ظلامية تضاعفت وحشيتها بعد الحرب، فقد أعطى الوضع المأساوي الذي عاشه الحزب وأعضائه، إثر تلك الكارثة، الفرصة لهذه القوى للتوغل والانبجاس في صفوف الاشتراكيين وممارسة الابتزاز، والتشكيك في قدرته على الاستمرار وتشويه صورته بشكل منهجي في أعين عامة الناس، الغير مدركين لخبث هذه القوى واساليبها المعروفة في إطلاق الأحكام التكفيرية لإحداث الرعب في نفوس الذين يختلفون معها في الرأي. وبعد أن أصبحت شريكة في السلطة، انتقلت إلى المرحلة التالية من حربها الشرسة ضد أعضاء الاشتراكي وجماهيره، وهذه المرة، ركزت جهودها على إجبار الاشتراكيين على التبعية من خلال التأثير السلبي على جيل الشباب، أي جيل الأبناء، وأطلقت مرحلة جديدة من الحرب النفسية وغسيل الأدمغة وحاتم يا للأسف كان واحد من ضحايا هذه المرحلة وممن لم يستطيعوا الصمود أمام شراستها. عندما أكمل حديثه أخبرته أن لدي مشكلة وهي أنني فقدت بطاقتي العسكرية ولا أدري كيف سأغادر المعسكر بدونها. نظر إليّ بدهشة وسألني إذا كنت على الأقل أحمل بطاقتي الشخصية. أجبته بالنفي. 

هذه مشكلة عويصة يا صديقي. وثائق الهوية في هذا البلد أهم من حاملها ولا أدري كيف ستغادر المعسكر بدونها. نصيحتي لك بأن تطلب المساعدة من زميل الدراسة حاتم الذي تربطه علاقات واسعة بالكثير من قيادات المعسكر.

قلت: لا يمكنني فعل ذلك، لكن أشكرك على النصيحة.

في هذه الحالة، ليس لديك من خيار آخر سوى التغلب على الأسلاك الشائكة.

حسناً، وهذا ما أفكر به فعلاً، سعدت برؤيتك. كن بخير، إلى اللقاء. بهذه الكلمات ودعت عاصم. 

قادتني قدماي إلى نفس الطريق التي أتيت منها. في غضون ذلك، اكتشف حاتم وجودي وسارع الخطى نحوي. بدا لي شخص مختلف تماماً عن زميل الدراسة والرفيق الأنيق الذي يهتم بمظهره ويختار ملابسه بعناية فائقة. قابلته آخر مرة قبل عشرين عاماً في مطار صنعاء حين كنّا في طريقنا لمواصلة الدراسة الجامعية هو في المملكة العربية السعودية وأنا في أوروبا. كان حينها يمثل الرجل المعاصر فكراً ومظهراً، حليق الذقن، عاري الرأس، ويرتدي البنطلون والقميص مع حرصه على ضرورة إبقاء الزر العلوي مفتوحًا. هذه هي شخصيته التي ظلت عالقة في ذاكرتي طوال العشرين عامًا الماضية. أما الآن فقد بدا لي بلحيته الشعثاء، و"زنته" الطويلة المحشورة عند خصره تحت بنطلون ابيض طويل يدوس على نهايته بنعاله، وربطة رأس (مشدة) حمراء مخططة بألوان بيضاء، هذا بالإضافة إلى وزنه الذي تضاعف ثلاث مرات تقريباً، كشخص آخر تماماً.

أهلاً أهلاً يا حيا ويا مرحبا، لم أراك من سنين، أنا سعيد جداً برؤيتك، صرخ من على بعد بضع خطوات. 

وأنا كذلك سعيد برؤيتك، لولا عاصم لما تعرفت عليك، اصبحت شخص مختلف تمامًا، ما الذي حدث وأين ذهبت تلك الأناقة؟ سألته وأنا ابتسم.

هذه هي الدنيا يا صديقي، إنها دائمة التغيير.

سلمنا على بعض وحرص كل منا أن يأخذ الحديث طابع المجاملة والسؤال عن الحال... واتفقنا على أن نلتقي خارج المعسكر في وقت آخر.

تركت حاتم، وتوجهت نحو السياج الحديدي الشائك عبر مسالك متعرجة، كي لا أثير شكوك الحراس، مقرراً تخطي السياج بأي ثمن. سألت نفسي: ماذا حدث لبعض الرفاق؟ لقد نزعوا جلودهم واستبدلوها بجلود أخرى لا تليق بهم. اقتربت من السياج، بخطوات بطيئة، متظاهراً أنني ذاهب لقضاء الحاجة، ثم رميت الحقيبة فجأة إلى الجانب الآخر من السياج، وبدأت التسلق. سقوط الحقيبة على الأرض أحدث دوياً مما أثار انتباه أحد الحراس، صرخ بصوتٍ عالٍ: "توقف ما لم سأطلق النار". أمسكت بالسياج بكلتا يدي، وحاولت التسلق، لكنني ارتطمت بالأسلاك الشائكة فنفذت مخالبها إلى كامل جسدي، في حين كان ظهري مهيأ لاستقبال رصاصة الحارس. في تلك الأثناء، رنت ساعة المنبه فاستيقظت وأنا في حالة من الذعر والعرق يسيل من جبيني.