تفاصيل

الإثنين - 03 يناير 2022 - الساعة 09:58 م بتوقيت اليمن ،،،

مدى الثقافي/ رضوان السيد:


يتبارى الأكاديميون في دراسة تأثير «السياق» (Context) على فهم الوقائع أو تأويلها في الزمن الحاضر، سواء أكانت أحداثاً تاريخيةً أم نصوصاً أدبية أو فلسفية.
وقد قرأتُ مقالات محورٍ في مجلة «نزوى» العُمانية عن الشاعر اليمني الكبير عبد العزيز المقالح بمناسبة بلوغه التسعين، وفي الواقعة ذاتها حضر اليمن الذي لا يغيب عن البال والهمّ بسبب حرب السنوات السبع القاسية التي فرضها الانقلاب الحوثي هناك. وفي ذاكرتنا نحن الأكاديميين فإنّ عبد العزيز المقالح، ولأربعة عقود، كان عَلَماً على اليمن ليس لأنه أكبر شعرائه الأحياء، وليس لأنه مدير مركز الدراسات اليمني، بل بالدرجة الأولى لأنه كان طوال تلك المدة رئيساً لجامعة صنعاء.

وبسبب إحدى مراحل الاشتعال في حروبنا الأهلية وغير الأهلية في لبنان، تقدمتُ عام 1988 بطلبٍ إلى المقالح رئيس جامعة صنعاء للتدريس فيها. فقد كنتُ وما زلتُ مغرماً بالتراث اليمني التاريخي والفقهي والكلامي.

وقد أجاب الرجل عليّ بسرعةٍ بالموافقة والاستقدام، حيث درّستُ بالجامعة لسنتين ونيّف، وصرتُ صديقاً للمقالح، وهي صداقةٌ لم يخفت وقْعها حتى صعبت الاتصالات بعد العام 2014. أول وصولي لصنعاء اقتنيتُ دواوين المقالح وأعماله الفكرية والأدبية. إنما ما لفت انتباهي واجتذبني هو تلك الشخصية الجامعة الجاذبة للمقالح المفكر والمقالح الإنسان. إذ في مجلسه برئاسة الجامعة «ومقيله» في منزله تعرفتُ خلال أقلّ من عام على زهاء أربعين أستاذاً عربياً ممن دعاهم المقالح للتدريس بالجامعة في مختلف تخصصات العلوم الأدبية والإنسانيات.

وهذا فضلاً عن الشعراء والأدباء العرب والعالميين الذين كان المقالح يدعوهم إلى مواسم الجامعة الثقافية، ومركز الدراسات اليمني، كل عام.

عبد العزيز المقالح شاعرٌ كبير ومن شعراء فترة الستينيات والسبعينيات التي سماها الناقد المصري البارز الدكتور جابر عصفور «حقبة الشاعر– النبي»، بمعنى أن شعراءها جميعاً تقريباً أصحاب دعوةٍ كبرى سواء أكان ذلك في الحداثة الفنية أم في المذهب الفكري والسياسي. وما كنتُ (ولستُ مختصاً ولكني متذوق للشعر) أرى تلك «الجهورية» في خطاب المقالح الشعري الذي يتلاءم وسطوع الدعوات عند صلاح عبد الصبور أو أمل دنفل أو أدونيس أو حتى البياتي، إذ هو أدنى في لغته السلسة والشفافة إلى ما كان يسمى بالشعر المهموس، مع شَجَنٍ خفيٍّ يظهر حتى في حديثه العادي.

أما في خطابه الفكري، فهو مثل مُجايليه وتلامذته من اليمنيين من أنصار التغيير والوحدة اليمنية، ويقعون في عمق تلك الإشكالية بين القبيلة والدولة. حتى إذا وصل الأمر للخطاب الديني، فهم جميعاً يعتنقون الرؤية الإصلاحية التي قادها الشوكاني ومحمد بن إسماعيل الأمير الصنعاني وتيارهما الاجتهادي في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر (درستُ نصوصهما في الأزهر أيضاً) في قلب المذهب الزيدي. وهكذا يربطون مع المعتزلة في القديم، ومع الليبرالية في الزمن الحاضر.

ويكون الهم بالطبع تجاوُز الإمامة لصالح الجمهورية. وما كان معظم المثقفين اليمنيين خائفين من عودة الإمامة أو فكرها. لكنّ المقالح استبقاني بعد أحد المقايل في دارة رئيس الوزراء الراحل عبد الكريم الأرياني- وكنتُ عائداً من صعدة وضحيان للاطلاع على مخطوطاتٍ في مجموعاتٍ خاصة- وسألني عن حال «العلماء» الزيود، فقلت له: إنّ هناك تذمراً شديداً، لكنْ ليس هناك اتجاه إمامي واضح. فقال: هذا بسبب تحالف السلطة مع حزب الإصلاح و«الإخوان»! أما الأرياني فعلَّق: كثيرون بدؤوا يذهبون إلى إيران، والله يستر! يمثل عبد العزيز المقالح روح اليمن العميق المسالم وشديد الوطنية والبالغ الانتماء للعرب والعروبة. أسأل الله سبحانه أن يحفظ عليه عقله وصحته وسط هذه الأهوال، وأن يعيد اليمن لأهله وأمته.

الاتحاد