صحافة

الإثنين - 09 ديسمبر 2019 - الساعة 08:48 م بتوقيت اليمن ،،،

مدى برس/ حاوره/ علي عبدالله العجري:

 (ظهرت عدن قبلة للشعوب كافة ومحط أنظارهم، وقد تقاطروا إليها فرادى وجماعات للتجارة أو التوطن والإقامة، فكانت أرض الخير لكثير منهم. تباركت بهم وتباركوا بها. فأصبحت هي الأم والوطن والملاذ، مما جعل الاعتزاز بالانتماء لتربة عدن كأحد أهم الأسباب في نبذ التعصب العرقي والمذهبي والقبلي والعيش معاً تحت سماء الرب الواحد.) الفقرة بين القوسين أخذتها من ظهر العتبة الأخيرة لكتاب "زوايا من تاريخ عدن" للباحث والمؤرخ بلال غلام حسين. الذي عشق عدن، وأصبحت دماء تجري في عروقه وسخر لها جهده وإمكاناته، باحثاً وموثقاً ومنقباً لتاريخها وإنسانها ومعالمها.
بعد أكثر من محاولة اتفقت معه على إجراء حوار مطول عنه وعن عدن، صباح الخميس 5 ديسمبر/كانون الأول الجاري.
في تمام التاسعة والنصف من ذلك الصباح الشتوي الدافئ كنت بجوار منارة عدن التاريخية في كريتر، أخبرته بالجوال أنني قد وصلت حسب الموعد، وأنتظره ليأخذني إلى منزله، حيث سنجري الحوار. استغللت لحظات الانتظار في تأمل ذلك المعلم السامق منذ قرون، كشاهد صامت على تاريخ عدن وتبدل أحوالها صعوداً وهبوطاً.
منارة مخروطية بيضاء مزخرفة يعلوها تاج صغير دائري لا تشبهها أي منارة أخرى في أي مكان من العالم ولا أحد يجزم متى بنيت ولماذا؟
البعض يقول: إنها لمسجد قديم اندثر وهي كل ما تبقى منه. والبعض الآخر يعتقد أنها فنار كان يرشد السفن إلى ميناء صيرة القديم قبل أن يطوقها البنيان الزاحف على البحر. قلبت في ذاكرتي كل ما عَلق بها من روايات عن هذه المنارة ولم اهتدِ إلى أي شيء يكشف لي سرها، ولم أنتظر أمامها كثيراً، فقد حضر بلال غلام. ذهبنا إلى منزله القريب من المكان. 
بدأنا الحوار في الهواء الطلق في حوش المنزل وأكملناه في مكتبه تحيط بنا الكُتب والوثائق التاريخية والصور النادرة لمدينة عدن.
بلال لا يكف ولا يمل من الحديث عن مدينته عدن حتى ونحن في الطريق إلى المنزل قبل اللقاء، ولذا كان سؤالي الأول له:

▪لِمَ كل هذا الشغف بعدن؟
علاقتي بمدينة عدن ألخصها في كلمتين، هما: عشق وإدمان. ما فيش وصف آخر. عشق وإدمان صعب علاجه.
 ▪يُقال إنّ البدايات الأولى هي التي تقولب المشاعر تجاه المحيط والأمكنة والمدن.. كيف عشت عدن طفلاً؟
عشتها كأي طفل من أبناء عدن. هي مرتع الصبى والآمال والأحلام. شكلتنا حواريها وأزقتها. مدينة كريتر بالذات. أنا من مواليد 1967 بعد خروج بريطانيا بواحد عشرين يوماً. وأسرتنا تنحدر من أصل هندي، لكن أبويّ وكل أسرتنا ولدوا وتربوا في عدن، درست الابتدائية في مدرسة سانت جوزيف (البادري) في كريتر. والإعدادية كانت في مدرسة الخليج الإمامي أما الثانوية فكانت في لطفي جعفر أمان. 
▪والجامعة؟
لم أدرس جامعة بالخالص.
▪كانت عدن مدينة عالمية فيها كثير من الأعراق والجنسيات وهذه طبيعة الموانئ التجارية العالمية. وأنت ذكرت أنك تنحدر من أصول هندية.. كيف انتقلت هذه الأسرة للعيش في عدن؟
في العام 1920 من القرن الماضي جاء جدي لأبي إلى عدن واستقر وعاش فيها، في فترة كانت عدن في أوج مجدها وتجذب إليها الناس للعمل والتجارة. كانت ميناءً مفتوحة لتجارة مفتوحة، يأتيها الجميع من كل حدب وصوب. صعد منها تجار ومليارديرات منهم ملياردير هندي الكل يعرفه يدعى (امباني) بدأ ثروته بمئة ألف شلن كسبها في عدن، ومثله قهوجي وتوني بس وكثير من الشركات العالمية التي بدأت نشاطها من عدن. عاشت فيها جاليات من كل الأجناس والأعراق والأديان وحرية العبادة كانت مسموحة (لكم دينكم ولي دين) فجاء الكثير إلى عدن ومنهم جدي.
▪يعني الجد انتقل إلى عدن كتاجر؟
لا.. جدي لم يكن تاجراً، ولكن قدم كمدرس للغة الإنجليزية والضرب على الآلة الكاتبة وأسس مدرسة خاصة لهذا الغرض لتعليم أبناء عدن الذين لا يعرفون اللغة الإنجليزية والضرب على الكاتبة.. تخرج الكثير من هذه المدرسة التي أسسها. 
▪ألاحظ صورة لمدرسة قديمة في جدار مكتبك، يصطف في فنائها مجموعة من الطلاب بالزي المدرسي.. هل هي المدرسة التي تحدثت عنها؟
لا.. تلك مدرسة حكومية الآن لا وجود لها فقد اندثرت. وقتها كانت توجد مدارس حكومية وأخرى أهلية ومدارس متخصصة، كتلك التي أسسها جدي حسين علي، رحمة الله عليه، والتي تخرج منها كوادر وقيادات منهم من وصل إلى مراكز عليا. 
▪إذا الاسم الكامل بلال غلام حسين علي؟
نعم. 
▪يبدو أن شغفك بمدينة عدن بدأ مبكراً؟
حب المدينة يبدأ من نعومة أظفارك لكن العشق يأتي بالتراكم. هنالك درجات يبدأ بحب المكان وأنت صغير، ويصل لدرجة العشق عندما تتكون مداركك وبعده يأتي الإدمان. مثلاً أنا عندي الآن الجنسية البريطانية. لكن لا أستطيع مفارقة هذه المدينة أبداً. ممكن أسافر شهراً شهرين لكن لازم أرجع بالذات لكريتر هذا المكان له مذاق خاص. مقدرش أفارقه أبداً؟
▪متى بدأ تكون بداخلك بلال المؤرخ؟
الحقيقة منذ التسعينات.. أذكر في بداية التسعينات كان هواية. والهواية تحولت إلى شغف وعشق. وبعدين تحول إلى (بروفشنال) يعني تخصص رسمي. فبدأت أبحث عن تاريخ عدن لا سيما عندما كنت مغترباً في لندن، عشت فيها ما يقارب عشرين سنة، لكن كنت دائم الزيارة لعدن. الناس كانت تقول لي أيش معك. تروح أوروبا، أمريكا. مدري فين. لكن ترجع لعدن. كانت إجازاتي كلها أقضيها في عدن أنا وأولادي. في 2003 وعمر أكبر أولادي تسع سنوات نزلتهم مع زوجتي إلى عدن وعايشن فيها إلى الآن. 
▪هل نقلت اهتمامك بالتاريخ وشغفك بتاريخ عدن بالذات إلى أحد أبنائك؟
أولادي ثلاث بنات لكن غير مهتمات بالتاريخ.
▪في مكتبتك الكثير من الكتب والوثائق ومنها جزء كبير باللغة الإنجليزية هل هي مراجع؟
نعم أنا أعتمد أكثر على المراجع الأجنبية لا سما في التاريخ. 
▪هل تعتقد أنها أكثر مصداقية؟
نعم أكثر مصداقية. أنا صراحة لا أعتمد على المراجع العربية إلا ما ندر، فيها الكاتب يتدخل في النص، ومنهم من لم يعش الفترة. على سبيل المثال كتاب القاسمي حول عدن، تدخل فيه كثيراً برأيه، وهو لم يعش في عدن ولا عاش مرحلة الانجليز. كتابه رسالة دكتوراه كتبها وفيها كثير من الرأي. هو قال إنه نقل عن الأرشيف البريطاني. إذاً اكتب ما نقلت زي ما هو، لماذا التدخل في النص.
▪كتب تاريخية أخرى لم تحظ برضاك؟
كثير من الكتب دُونت فيها بطولات كاذبة وتزييف وتحوير للحقائق. على شان كذا أنا أتجنب المصادر العربية إلا ما ندر. وأعتمد أكثر على الوثائق والملفات في الأقبية والمراكز والارشيفات، كالأرشيف البريطاني، لأنه وثّق بمهنية عالية لمستعمرة عدن في كل الجوانب الإدارية والمالية والسكانية والعمرانية وهو متاح لكل الباحثين.
▪أرى أمامي، أيضاً، صورة في جدار مكتبك لوثيقة طويلة ممهورة بكثير من التوقيعات.. ما هذه الوثيقة؟
الوثيقة هي مناشدة من أبناء عدن للحكومة في بومباي لإبقاء حاكم عدن في منصبه وعدم عزله لما قدم من خدمات جليلة لعدن وأهلها.
▪نتحول إلى إنجازاتك في مجال البحث والكتابة التاريخية.. ما أبرز ما كتبت؟
أهم إنجاز، بفضل الله تعالى، كتاب حول تاريخ عدن بعنوان (زوايا من تاريخ عدن. تاريخ وطن.. وحكاية إنسان) يشمل الفترة من 1839- 1967 دونت فيه الكثير من زوايا هذا التاريخ. وكان كتاباً ناجحاً وموفقاً، وأحدث صدى كبيراً. إلى يومنا هذا والصغير والكبير يقتني هذا الكتاب. أخذ الإحصائيات من المكتبات. وقد نفدت الطبعة الأولى تماماً خلال شهرين وعشرين يوماً، وأصدرت الطبعة الثانية ولم يتبق منها إلا عدة نسخ. الكتاب مرغوب، وإن شاء الله تكون فيه طبعة ثالثة قريباً.
▪هذا يؤكد أن الناس متعطشون لمعرفة تاريخ عدن؟
أكيد.. وهذا ما يجعلني أعكف على المزيد من الأعمال حول عدن. 
▪يعني في أعمال أخرى قادمة؟
إلى الآن عندي أربعة كتب الكتاب الذي تحدثنا عنه. وكتاب آخر بعنوان (24 ساعة في عدن) يوثق لزيارة الملكة اليزبث ملكة بريطانيا عندما زارت عدن في 27 أبريل 1954. الكتاب الثالث بعنوان (قلصين شاهي وثلاثة شهور سجن) وهذا يوثق لتاريخ المحاكم والقضايا التي حدثت. جمعتها على شكل سيناريوهات عن الذي كان يحصل في كل قضية. 
 كما أني الآن أضع اللمسات الأخيرة على كتاب يدون البدايات الأولى لتأسيس النظام المالي والمصرفي في عدن. وكتاب عن ميناء عدن منذ القِدم، منذ كان في صيرة مروراً بنقله إلى المعلا والتواهي وحتى خروج الانجليز.
▪ألاحظ أن المدة التي تؤرخ لها في كل كتبك تنتهي بالعام 1967.. هل تخطط للكتابة عن مرحلة ما بعد الاستقلال؟
لا. لا أخطط للكتابة عن مراحل ما بعد الاستقلال.
▪يوجد الكثير من المؤرخين الذين يتخصصون في مرحلة زمنية محددة، وهذا حقهم. لكن هل لك من رؤية أو عمل مشترك مع جهة ماء للحفاظ على ما تبقى من تاريخ عدن وهويتها؟
الحفاظ على التاريخ والمعالم يحتاج إلى دراسات وأموال، لأن المعالم تحتاج صيانة، في العالم كله يتم عمل صيانة للمعالم التاريخية. عندنا نريد نحافظ عليها ونكتفي بالفرجة حتى تسقط وتنهار. باقي معنا ثلاثة معالم وهي مهددة. شوف الصهاريج يهددها البناء العشوائي. والمنارة لولا ستر الله وإلا كانت سقطت في أي حرب شهدتها عدن من خلال قذائف طائشة. قلعة صيرة لأنها مرتفعة ما قدر أحد يمسها. وقد أعيد فتحها قبل أسبوعين من الآن. ولا يستبعد أن تتعرض للتشويه من خلال الشخبطة على جدرانها والكتابات.. واحد يكتب مذكراته، وواحد ما أدري إيش يكتب. وسمعت أن فيه أيضا تكسير لبعض الأحجار هناك. وبالتالي عبث يصعب معه الحفاظ على معالمنا المهمة.
▪البعض يقول إن عدن لها ذاكرة مثقوبة. تتغير ملامحها وفقاً للنظام السياسي الذي يحكمها.. ما مدى صحة هذا القول؟
أكيد. تاريخ عدن يتكون من ثلاث مراحل: التاريخ القديم، والتاريخ الوسيط، والتاريخ المعاصر. مرت عدن بعدة أشكال من أيام الطاهريين الذين هم امتداد للدولة الرسولية وقبلهم الزريعيون وبعد ذلك جاء الأتراك. الأتراك حكموا عدن فترة، وبعدهم جاء البريطانيون، ثم الاستقلال والوحدة.
▪كل المدن اليمنية تقريباً تعاني من الترييف المستمر، أي زحف قيم الريف إلى بنيتها المدنية، منها عدن؟
نعم، للأسف الشديد. بعد الاستقلال حدث نزوح واسع من الريف إلى مدينة عدن واستولوا على المنازل التي تركها الانجليز وكثير من الذين كانوا عايشن هنا وغادروا المدينة بعد خروج بريطانيا. كانت البيوت فاضية. نزل الناس من الأرياف وسكنوا هذه البيوت وسيطروا على الوظائف وكان الغرض طرد أبناء عدن. جاء ذلك بعد القرار الذي أصدره قحطان الشعبي في 67. والدفعة الثانية من الكوادر المتعلمة والمؤهلة خرجت في 72. وحل محلهم أبناء الريف الذين نقلوا طابعهم. وهكذا تريفت عدن.
▪لكن النظام السياسي ما بعد الاستقلال بقيادة الحزب الاشتراكي قدم أنموذجاً مدنياً جيداً؟
اقول لك شيئاً، نحن كمان لا نبالغ. الحزب لاقى كل شيء جاهزاً، خاصة في عدن. لاقى مدارس جاهزة والمرافق الحكومية جاهزة، البنوك التي يشتغلون عليها جاهزة. هو فقط كان له قبضة أمنية قوية وفَّر الأمن والأمان بنسبة معينة. ومنع التمدُّد العشوائي. وكان فيه سلبيات كثيرة مقابل ذلك.
▪البعض يرى أن الترييف الكبير لعدن تم بعد الوحدة خصوصاً بعد حرب 1994؟
نعم عدن دفعت ضريبة كبيرة وبالذات أبناء عدن الذين صاروا أقلية في مدينتهم. لأنه حصل نزوح كبير أيضاً إلى عدن بعد الوحدة، ونزل أناس كثيرون، وسطوا على الأراضي والبقع، وأبناء عدن جالسين يتفرجون. وقع ظلم على هذه المدينة خلال المراحل السياسية المتعاقبة. نحن لا نتكلم على الوحدة كقيمة سامية، أقولها شهادة لله. لكن القيادات السياسية والممارسات السياسية هي التي تتحمل الكوارث التي حصلت ما بعد الوحدة. لا أحد يحنّ لأيام المستعمر الذي استعمره إلا عندنا. وهذا من الضيم الذي حصل لهم خاصة أبناء عدن. 
▪يمكن أسر محددة هي التي لها مشاعر الحنين لأيام بريطانيا وليس كل أبناء عدن؟
لا.. لا، الكثير من أبناء عدن، وحتى من الجيل الجديد يتمنى أن تكون عدن كما كانت زمان.
▪نعود لمعالم عدن التاريخية.. ما هي أبرز المعالم التي ترى أنها بصمة عدن وهوية عدن؟
المعالم اندثرت. معك باقي قلعة صيرة رمز الشموخ والثبات.. معك المنارة والصهاريج. باقي المعالم اندثرت أو تكاد. خاصة الروح المدنية والطابع المدني والهوية العالمية لعدن التي تميزت بها. تخيل أنّ المسرح في عدن موجود منذ 1904، وكانت تُقدَم مسرحيات ذات قيمة عالية، مثل مسرحيات شكسبير، رغم اللغة الصعبة والسيناريو الصعب. ترجمت هذه المسرحيات للعربية وعرضت على مسارح عدن، وكان عندنا سينما ومكتبات وأندية رياضية عريقة، بلغ عدد الأندية في عدن ستة وخمسين نادياً.
▪وصلنا إلى ختام هذا اللقاء الجميل معك.. هل من كلمة أخيرة؟
أشكركم على اهتمامكم بمثل هذه الجوانب المهمة.. وأهلاً بكم في أي وقت.
شكرته بدوري، وأغلقت المسجل، والتقطت بعض الصور. وقبل أن أغادر أهداني بلال غلام كتابين له (زوايا من تاريخ عدن) و(24 ساعة في عدن) ورافقني إلى جوار البنك الأهلي في شارع الملكة أروى، وأثناء مرورنا بجوار مبنى البريد التفت هو إلى عمارة حديثة أسفلها مصرف الكريمي وقال لي، بُنيت هذه العمارة في مكان مبنى جريدة (فتاة الجزيرة)، واحدة من أقدم الصحف في عدن والجزيرة العربية، وفي الاتجاه المقابل لها كانت توجد حديقة عامة.. الآن كل شيء تغيّر. ودَّعني وقبل أن استقل الباص المتجه إلى الشيخ عثمان نظرنا سويّاً إلى مبنى المجلس التشريعي العتيق الذي يبدو عليه أثر قذيفة طائشة من قذائف الحرب أصابت سقفه القرمدي المسنم على الطراز الفيكتوري.