كتابات

السبت - 21 مايو 2022 - الساعة 06:23 م بتوقيت اليمن ،،،

مدى الثقافي/ بديع صنيج/ إرم نيوز:


رحل الشاعر العراقي ”مظفر النواب“ وفي قلبه وعقله مئات القصائد، التي لم تُساعده صحته على إكمالها، ففي آخر كلماته على صفحة تحمل اسمه بموقع ”فيسبوك“ كتب: ”متعب مني.. ولا أقوى على حملي“، إذ لم يعد قادراً في أيامه الأخيرة بسبب مرض الباركنسون أن يَمُدَّ نَفَسَ القصيدة، بل بات يجعلها قصيرة مُركَّزة، ومشبعة كما سابقاتها بالزخم الشعوري وجماليات المبنى والمعنى.

والمطلع على تجربة ”أبو عادل“، أو حضر إحدى أمسياته الشعرية، لا بد يعرف أن صوته الجميل في الإلقاء يتماهى مع مفرداته التي تتناغم كأغنية، إذ إنه في كل ما كتب، بالعامية أو الفصحى، يسعى إلى التطريب، ويُمَوسِق أشعاره على مقامات العشق والانتماء للإنسانية، ويجعل من قصائده حافزاً على الفعل الثوري وإحقاق الحق.

وربما لا يعلم كثيرون أن أولى المحاولات الشعرية لمظفر كانت في الثامنة من عمره، متأثراً بأهازيج الأفراح وطقوس المآتم الحزينة، وما اختزنته ذاكرته الغضة آنذاك عن الأزقة وبيتهم على النهر مقابل السراي الحكومي، إلى جانب محبته لقص الورق، وجمع الشمع الذائب في الأعياد ليصنع منها شموعاً جديدة.

وبالإمكان القول إن بناء القصيدة لديه ما هو إلا شبيه بذلك اللعب الطفولي، لكن مع وعي كبير بمكانة اللغة وصياغتها بمهارة قلّ نظيرها.

و“النواب“ رغم نشأته في بغداد، إلا أن إقامته في أهوار العراق، والتقاءه مجموعة من المغنين هناك كـ“غرير“، و“جويسم“، و“سيد فالح“، جعلته يكتشف الغنى الموجود في غنائهم، شبَّهه في أحد لقاءاته بأنها ”عالم مملوء بالجمال من الصعب أن نجد عالماً بديلاً منه، ويمكن أن يسد حاجة كبيرة في إمكانات الخلق لدي، كما لو كنت وجدت طينة معجونة جداً ومخمرة جيداً لتشتغل عليها تمثالاً“.

من ذاك العالم المختمر وتلك الطينة البِكْر، استطاع الشاعر العراقي أن يُشبِع قصائده بالماء والهواء النَّقيّ، وأن يُدوزِنَ أشعاره بشفافية مُذهلة، وصِدْقٍ بالبوح والتعبير عن الأحاسيس، سواء أكان يكتب عن الوطن أو المرأة أو الثورة أو رفاق النضال أو عن رؤيته للكون.

ورغم بوحه الشفيف، إلا أن قصائده كانت تحمل في كثير من الأحيان نَفَساً ثورياً مخضَّباً بالحق، ومُطالباً بإحقاقه، مع لغة تتبدل لتصبح كطلقات الرصاص والقنابل في وجه الأنظمة المستبدة، والاحتلال، وهجاءً قاسياً للمَظالِم التي يتعرض لها الناس البسطاء، وفي ذلك مجموعة كبيرة من القصائد، نذكر منها ”عبد الله الإرهابي“، ”قمم قمم“، ”آر بي جيه“، وأشهرها ”القدس عروس عروبتكم“.

وإضافة إلى شعرية النواب المفعمة بالتجدد والألق، والبلاغة المُستحدثة، فإن الكثيرين لا يعلمون أنه مُتمرِّس في الرَّسم، وهذا ما يُبرِّر إمكانياته العالية بخلق تصاوير جديدة، واستعارات غريبة، إلى جانب نَفَسه السردي الواضح في كثير من قصائده، مما يجعل صفة ”الملحمية“ دقيقة فيما كتب، وهو مما يبرز في ”الريل وحمد“ و“وتريات ليلية“ وغيرها.

وإضافة إلى جماليات اللغة، والصور الشعرية، يبقى وضوح الرؤية لدى ”أبو عادل“ هو الأبهى، إذ أعلن مراراً أنه مُعارضٌ شرسٌ لأنصاف المواقف ومنها في قصيدته ”في الحانة القديمة“ التي يقول فيها: ”سيدتي.. أيقتلكِ البردُ؟ أنا يقتلني نصف الدفْء ونصف الموقف أكثر“.

وهو ما انعكس على موقفه من الحياة والوجود والإيديولوجيا والجَمال وكل شيء، إذ إن اليساري العتيق ما زال يؤكد أن ”بوصلة لا تشير إلى القُدْسِ مشبوهةٌ.. ملعونٌ من يتبعها“، وأن عَتبه ما زال على ذاك الذي ”يمتلك أسلحة الأرض ويسأل كيف يحارب“، لا سيما أنه ”تدفع يدك الملغومة في فم طفلك، تسمع لدغته الناعمة الوردية، تبحث عن أول سن يجرح من أجل قضية“.

”مظفر النواب“ فلاح القصيدة، والمُقاوم المُرّ من خلالها، والشيوعي المتضايق من تبدُّل أحوال رفاقه، عاد اليوم إلى حُضن الأرض وهو يغني وترياته الليلة: ”في تلك الساعة من شهوات الليل.. وعصافير الشوك تفلي الأنثى بحنين.. صنعتني أمي من عسل الليل بأزهار التين.. تركتني فوق تراب البستان الدافئ.. وحلمت هناك بسكين.. وتحرك في شفتي سحاق السكر“.