منوعات

الخميس - 02 يونيو 2022 - الساعة 07:43 م بتوقيت اليمن ،،،

مدى برس/ علي قاسم:


منذ اللحظة الأولى لتسرب الأنباء حول كوفيد – 19 لجأ العالم المذعور إلى اتخاذ إجراءات وقائية وصلت إلى حد إفراغ شوارع المدن وإكراه الناس على البقاء داخل بيوتهم، عملا بالحكمة القائلة: درهم وقاية خير من قنطار علاج.

مشهد بدا أقرب إلى فيلم رعب منه إلى عالم نحن أبطاله.

هناك من شكك في تلك الإجراءات، ورأى فيها مبالغة لا ضرورة لها. في النهاية سيصاب من يصاب، ويموت من يموت مهما اتخذنا من إجراءات. وسمعنا عبارة مقاومة القطيع تتردد، حتى بين المسؤولين في أعلى المراتب.

تباعا، تخلت الدول عن الإجراءات المفروضة، رغم أن أعداد الإصابات الجديدة لم تتناقص. وصلنا إلى مرحلة اكتفينا فيها بأخذ اللقاح، وهو إن لم يوقف انتشار الفايروس، إلا أنه حتما نجح في تحسين مقاومة الجسم، وبالتالي تناقصت أعداد الحالات الخطيرة التي تقتضي إدخال المصابين وحدات العناية المركزة.

الفاتورة التي دفعها العالم لا يستهان بها، وكان من نتائجها إفلاس شركات وأفراد على نطاق واسع.

هذه ليست مقدمة لتبرير أي تساهل في مواجهة الأوبئة، ولكنها تمهيد لطرح سؤال مهم.

خلال عامين ونصف عام تقريبا من ظهور فايروس كورونا بلغ عدد ضحاياه 6.28 مليون، استنفر خلالها العالم. بينما هناك قاتل صامت آخر تفوق أعداد ضحاياه سنويا ما خسرته البشرية خلال عامين ونصف عام، تذكره الناس في الحادي والثلاثين من مايو، هو دخان السجائر، يبلغ عدد ضحاياه سنويا 8 ملايين، هذا إلى جانب مساهمته في تلوث البيئة. هناك بالطبع مسببات أخرى تفتك بحياة البشر، بصمت أيضا، نكتفي بذكر السمين الأبيضين، السكر والملح.

ذكر مسببات الموت يشجع على ذكر حوادث الطرقات والأعداد الهائلة التي تلتهمها سنويا من ضحايا.

والسؤال، لماذا يصمت العالم عن مسببات للموت يعلمها؟ نحن لم نر خلال عقود من مكافحة التدخين قرارا يتخذ لوقف صناعة السجائر، ومنع إضافة السكر للأغذية والمشروبات المصنعة.

الجواب بكلمة واحدة: الصناعة.

من يمتلك الجرأة لاتخاذ قرار يوقف صناعات كبيرة قائمة على التبغ والسكر؟ حتى إن وجد بيننا من لديه الجرأة على اتخاذ مثل هذا القرار لن نتردد في تصويب ألف حجر إليه.

في كل عام يودي التبغ بحياة أكثر من 8 ملايين شخص، ويطلق 84 مليون طن من ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي، ويتسبب إنتاجه بفقدان 600 مليون شجرة، و200 ألف هكتار من الأراضي، و22 مليار طن من المياه العالم أحوج ما يكون إليها بينما يواجه أزمة غذائية غير مسبوقة.

هل تريدون المزيد؟ منتجات التبغ تحتوي على أكثر من سبعة آلاف مادة كيميائية سامة يتم تسربها في البيئة عند التخلص منها.

مَن من بين متعاطي التبغ لم يرم بعقب سيجارة (فلتر) في الطريق، غير عابئ ولا مكترث، مساهما بـ4.5 تريليون فلتر تنتهي في البحار والمحيطات والأنهار وعلى الأرصفة والأرضيات وعلى الشواطئ، يتولد عنها 1.69 مليار رطل من النفايات السامة، وتطلق الآلاف من المواد الكيميائية في الهواء والماء والتربة كل عام.

وفي النهاية سنجبر جميعا، حتى هؤلاء الذين لا يتعاطون السجائر، على مد أيدينا عميقا في جيوبنا لدفع حصتنا من كلفة إزالة مخلفات التبغ وكلفة معالجة الأمراض التي يتسبب بها.

لم تتردد الحكومات في اتخاذ إجراءات صارمة عندما اقتضت الضرورة حماية المجتمعات من فايروس؛ أغلقت الأسواق والمطارات والفنادق والمطاعم والمدارس والجامعات ودور العبادة للسيطرة على وباء قاتل، رغم أن عدد ضحاياه لا يتجاوز عدد ضحايا التدخين وتلوث البيئة وضحايا حوادث الشوارع، أو التلذذ بطعام حلو ومواد حافظة وملونة.

لدى المعارضين لهذا الرأي جواب جاهز يمكن أن يرمى في وجوهنا: لولا العلاج واللقاحات والأقنعة وإجراءات الحجر لكانت الخسائر المادية والبشرية من جراء كوفيد – 19 أكبر من هذا بكثير.

هذا صحيح، ولكنه يقدم نصف الحقيقة ويحجب النصف الآخر.

الأرقام تبين لنا أعداد ضحايا التدخين وتلوث البيئة وتناول السكر والملح، وتحجب عنا أرقاما مضاعفة لأعداد المرضى الذين يدخلون المستشفيات، وتنفق عليهم الحكومات، من جيوبنا، أرقاما فلكية.

مثلما تحلت الحكومات بالشفافية، وكانت صريحة في تقديم البيانات حول الجائحة، مطلوب منها أن تتحلى بالشفافية وتكشف لنا عن الأرقام التي تتحملها صناديق الرعاية الاجتماعية والصحية، وعدد المرضى الذين تتم معالجتهم، والأهم من كل هذا قيمة الفاتورة النهائية.

هناك فريق ثالث له رأي مخالف، يدعو إلى ترك الطبيعة تعمل عملها، كما عملته على مدى الآلاف من السنين. يحيا من يحيا من البشر، ويموت من يموت.

شعار أصحاب هذا الرأي “البقاء للأفضل”. وهم يجادلون بأن البشرية ما كان لها أن تصل إلى ما هي عليه الآن، لولا قانون الانتخاب الطبيعي. وفق هؤلاء علينا أن نرضى بحكم الطبيعة، نتركها تفعل فعلها. وكأنما بي أسمع الشاعر زهير بن أبي سلمى، الذي رحل عن عمر بلغ تسعة وثمانين حولا، يقول:

رَأَيْتُ الْمَنايا خَبطَ عشواءَ من تُصب

تُمِتْهُ وَمَنْ تُخطئ يُعَمَّرْ فَيَهْرَمِ

مع ذلك، ورغم أنف زهير بن أبي سلمى، الذي أكنّ له كبير الإعجاب، تبقى الوقاية خير ألف مرة من العلاج.


العرب اللندنية