مدى الثقافي/ خاص - قراءة/أ. علي أحمد عبده قاسم:
صدر مؤخراً عن مكتبة عزيز بصنعاء المجموعة الشعرية في الهايكو للشاعرة والقاصة / سكينة شجاع الدين، ضمت المجموعة بين دفتيها ما يقرب من أربعمائة وثلاثة وأربعين نصاً في شعر الهايكو، والتي ضمتها صفحات المجموعة التي بلغ عددها مائة وسبعة وخمسين من القطع الصغير..
تأتي أهمية الإصدار أنه أول إصدار في اليمن في الجنس الأدب الشعري الوافد لإبداعنا من شرق آسيا وبالتحديد اليابان.
وفي هذه القراءة سأتناول الخصائص والمميزات لشعر الهايكو من خلال نصوص المجموعة الشعرية.
أولاً: العنوان
نعلم أن العنوان هو اللافتة التي ترسم هوية وهو العتبة الأولى التي يلجأ لها القارى لتفكيك النص وتشريحه وتأويل فضاءاته ورسالته، والعنوان اختزال لمضامين النص ورسالته القريبة والبعيدة والمسكوتة في مضاميته. فهو احترافية كاتب وقدرات محترف، وهو إشارة لاحترافية الشاعر الذي يمتلك أدواته.
وجاء تركيباً إضافياً "وشوشة المحار" فأضاف النص المحسوس للجماد ليجسد المعنوي للمحسوس بصورة تجسيدية سريالية لا معقولة تشد المتلقي ليتشابك المتلقي مع النص ويحفز ذهنه بإثارة ليفسر دلالات.. حيث تحول المحارات كائناً حياً له لسان وله حديث ويهمس برسالته في عالم الإبداع وأذنه بالذات بأسلوب واضح وغير واضح بوصف الوشوشة كلاما مختلطا مرة يسمع وأخرى يحتاج لإنصات.. والعنوان جاء بطريقة تراسل حيث استلب اللسان من الإنسان ومنحها للحروف التي هي الوشوشة واستلب السمع وأعطاها للمجموعة الشعرية التي هي المحار.. فأنسنة الشكل والمضمون يفضي أن النص الشعري رسالة إنسانية بامتياز، وهي إبداع إنساني ممتد وسط عالم الإنسان الذي تنصل عن الإنسانية.
وجاء جملة اسمية تتكون من مبتدأ وخبر "هذه وشوشة المحار" وحذف المبتدأ لأهمية المشار إليه وثباته وديمومة همس الإبداع الحروف ما امتد في الإنسان نفس فامتداد وثبات المشاعر خالدة ما امتدت الحياة..
وعند تأمل مترادفات اللفظ وشوش فإنه جاء بمعانٍ تجمع الخفة والسرعة بين كل المترادفات..
"ولد وشوش" أي خفيف سريع.
"وشوش الولد" كلمه بصوت خفيف غير واضح.
"وشوش صاحبه" همس إليه بالكلام وساره.
ومن ذلك يلحظ المتأمل في المترادفات أن الجامع بين المترادفات كلها الخفة والسرعة والهمس الخافت غير الواضح بوصف الإبداع تلميحاً وكلامه متعدد التأويل..
وهذا يتفق تماماً مع خصائص الهايكو، حيث إن السرعة والخفة لازمة كتابية عند كتابة الهايكو. فالسرعة تتمثل بالجمل القصيرة الخالية من حروف العطف والفواصل فيكون النص أشبه بقطار سريع صادم في نهايته وبدايته. والخفة هي التكثيف الخالي من الإسهاب والتطويل والوصف الملل، وهو نص مختزل موارب فيه الحذف والاقتطاع من النص وفيه تقديم وتأخير ليكون نصاً موجزاً سريعاً مدهشاً..
والمحارات هي الجواهر الآتية من بحر المشاعر ومن مقدرات الأعماق والخيال، فالمحارات معادل رمزي للنص فشكل الديوان عقداً فريداً فيه لؤلؤ وجمان وياقوت وألماس وغير ذلك من الجواهر النفيسة، فالنص نص هايكو نفيس نادر اجتمع فيه الروح بالحرف ورسم عالمه مشاهد مثيرة قصيرة مختزلة مكثفة مباغتة.. فكان العنوان موفقاً لأبعد حد بوصفه اختزل مضامين وخصائص في كلمتين "وشوشة المحار".
ثانياً: مفهوم الهايكو
الهايكو هو الشعر الياباني وهو نص شعري يفيض بالمشاعر على الرغم من قصر عهده.
وهذا الشعر يتألف من ثلاثة مقاطع أو أربعة أوخمسة أو ستة، وقد يصل لسبعة عشر مقطعاً في حالة التانكا. وفد مؤخراً تأثراً بثقافة الشرق بعد أن تأثر العرب بالثقافة الغربية والمذاهب الأدبية فيها بعد الحربين العالميتين.
ووفد هذا الجنس الأدبي تلاقحاً مع الثقافة في شرق آسيا وزاد من انتشاره شبكات التواصل الاجتماعي، ربما كان المغاربة أول المهتمين، وفي الأردن خاصة، ولست هنا بصدد انتشاره، ولكن أود التوضيح.. ففي مقدمة المجموعة قال دكتورنا الأستاذ عبدالعزيز عبدالمقالح إن هذا محاكاة للشعر الياباني وأضيف أنه استيعاب من اللغة العربية لمثل هذا الشعر خاصة، واللغة العربية واسعة الخيال، بل إن لغتنا هي لغة مجاز حتى في حديثنا اليومي، ومن أهم خصائص الهايكو المجازية، وأثبتت الورش والحوارات والتي أجريت بشأن استيعاب اللغة العربية لهذا الجنس الشعري الوافد أن لغتنا استوعبته بامتياز، ومن نافلة القول إن الهايكو لم يعد يكتب في اللغة العربية فقط بل أيضا بعض اللغات أخذت بهذا الفن كالانجليزية والفرنسية.
والسؤال الذي يطرح نفسه: هل التزمت الشاعرة بمقاطع النظام للهايكو بالفعل؟
نعم بكل تأكيد، فعند التأمل في النص أنها التزمت وكتبت بكل أنظمة الهايكو الثلاثية والرباعية والخماسية والسداسية، ففي النظام الثلاثي جاء نص وحيد هو:
"بندوبها
متدفقة
حروفي".
وفي النظام الرباعي جاءت كثير من النصوص كمثل
"غادرني
حين قبلته
الحزن".
وأتي النظام الخماسي في كثير من النصوص، مثل:
"تتدلى
ثمار الأشجار
وجدي المختزل".
وكان السواد الأعظم من النصوص سداسية مثل:
"مد وجزر
على الشاطئ
عواصف الأشواق".
وكذلك:
"تسير خواطري
على صفحة الماء
حافية الشعور".
وبالمجمل فإن نص الهايكو مشهد يفيض شاعرية يتكون من ثلاث جمل مترابطة تصلح البداية أن تكون نهاية والنهاية بداية أي يمكن قراءته من نهاية لبدايته ومن بدايته لنهايته، وإذا تعثرت تلك القراءة فإن النص مختل.
وأيضاً ورد في النص نصوص التانكا، وهي عبارة عن نصين هايكو متتاليين، ويمكن قراءة النص من البداية والنهاية، كمثل:
"عيون القلب
ترنو إليه
وجدته
في مقامه
ألوان الحنين
تسبح"
"لوحة مرسومة
لعمره الحافل
ذاكرة سخاء
باقية بالشكر
أتمرغ فيها
نعمه".
تأتي أهمية الديوان كونه كتب وباحترافية عالية وبوعي بالخصائص والميزات، فهو هايكو مكتمل وهو أول مجموعة شعرية في اليمن ومن المعيب على مؤسساتنا الرسمية أن يطبع مثل الديوان المهم في مكتبة تنسخ وبجهود ذاتية والمفترض بدار لها شهرتها.
وحتى أكون منصفاً وجدت بعض النصوص للشاعرة ليلى الهان لكنها ليست مكتملة وغير واعية لكنها تشبه الهايكو، ووجدت لأستاذي الكبير الأستاذ محمد القعود نصين في نهاية ديوانه الوردة بلاقبيلة، لكن تعد تلك كتابات جاءت كتوارد الخواطر.
ثالثاً: أهم خصائص الهايكو
وحتى تكون رؤيتي مفيدة وذات جدوى، فإن أهم خاصية للهايكو هي الموسمية وهي جوهر شعر ومحور ارتكاز شعر الهايكو، وهي تصوير فصول السنة وتعاقب الليل والنهار والتغيرات المناخية وهبوب الرياح وسكونها وحالة الجفاف والمطر والبرد والحر، وربما تأتي أهميته بوصف اليابان كثيرة المطر وتعدد الفصول في شرق آسيا لذلك يعتبر الهايكو مشاهد للبيئة وتصويراً للأمكنة والأزمنة بصورة ذكية، وهو رسم للخصوصية والهوية بلقطات ذكية، وكم نحن بحاجة من كل أديب ومبدع أن يرسم الخصوصية والهوية والتغيرات التي تطرأ على المكان والزمان.
فهل صورت الشاعرة تلك الموسمية في هذا الديوان من ذلك
"الخريف
ناقوس يدق
في شرايين الذبول
نبتة ترعاها"
"مسافرة فيك
صحراء قاحلة
أعد خطواتي"
"يحين الفراق
حتمية القدر
طيور مهاجرة"
"كلما أمطرت السماء
بحثت عن بذورها
طيور مهاجرة"
"صقيع يلفني
ضمة
تكفي للشروق".
لذلك فالنص كتب بموسمية عميقة ورسم الوردة والزهرة والذبول وتساقط الأوراق.
"وفاة الورد
تنحتها الأيام
ذاكرة موجعة".
والخريف والربيع والليل والنهار والحر والبرد والشروق والغروب وبدايات الفصول ونهايتها وما يطرأ على الطبيعة من تغيرات وانعكاس ذلك على الذات بنصوص غاية في الجمال والمفارقة..
أما الخاصية الثانية فهي الآنية، أي أن يرسم الزمان الحالي والموجود والواقع المتوفر وإن ذهب للماضي وللتراث وكل الموروث فإن النص يوظفها للحاضر ويجسد من خلالها حقيقة واقعية أو لحظة شعورية فيتكلم عن الحاضر بتوظيف الماضي ويمكن للمتلقي أن يضيف بخياله الظرف "الآن" في نهاية كل نص في المجموعة
"غيوم
فارقت السماء
خريف هل"
فنستطيع القول في خيالنا في نهاية الآن.
وتأتي الخاصية الأخيرة والتي أود التحدث عنها وهي المجازية، أي أن النص الشعري رغم قصره زاخر ومترع بالصورة الشعرية والخيال من خلال تشبيه أو استعارة أو كناية أو رمز أو اللون وحفل النص في المجموعة بأصناف المجازات وأنواعها ما عدا نص وحيد مباشر:
"انقطع
قابس الشحن
عندها غادرت طفلتي"
هذا النص الوحيد الوحيد الذي جاء عارياً من الصورة بما يشبه الخبر العادي..
وهذه الميزة ليست ميزة وخاصية للهايكو فقط بل كل أنواع الشعر وأي نص أدبي فمن الضروري أن يتميز الشعر بالشعرية وهي مكامن الإبداع في أي نص، وهي كسر أفق المتلقي بحيث ينال النص أعجابه ويوخز مشاعره.
رابعاً: الزمن ذكاء اللقطة
وإذا كانت الزمانية والمكانية هامة فإن النص رسم مشاهد زماننا ووطننا بصورة سريعة وكل نص هو قصيدة طويلة أو موضوع لقصيدة طويلة:
"انفجر الصاروخ
تناثرت الأشلاء
وطني يحترق"
" تشكو الإهمال
جفاف للحياة
مدرجات اليمن".
وجاء في النص بلوحات قصيرة مدهشة:
"تجيد الطعام
بنفسها المميز
ملاعق الطعام"
"مستبد
أرق منامي
صنبور مثقوب".
وأعمق أنواع الهايكو ما جاء التقاطة سريعة مبتكرة هي للكاتب فقط وليست لغيره أو محاكاة لغيره، فشاعر الهايكو المحترف والمتمكن والكبير يتميز مثله مثل أي شاعر يكتب الشعر المتبع والمتعارف عليه.
والأستاذة سكينة شجاع الدين شاعرة متميزة في كلا الجنسين من الشعر..
خامساً: البدايات والنهايات
البدايات والنهايات في شعر الهايكو وفي أي نص له خصائص دالة على براعة الشاعر والكاتب من خلال قوة النص وتماسكه وترابطه..
وإذا ما تأملنا نصوص المجموعة من حيث البدايات والنهايات فإن تنوعت فقد أتت جملة فعلية وجملة اسمية وشبه جملة وربما بدأت بجملة فعلية وانتهت باسمية:
"يأتي الشتاء
متجمد النبض
حروف تسبح
في الأعماق".
بدأ النص بجملة فعلية وانتهى بشبه جملة وقد يأتي بظرف أو حتى بمفعول مطلق أو نداء أو استغاثة:
"حين تغادره
يضرب عن الطعام
عصفور وفي"
بدأ بشبه الجملة وانتهى بجملة اسمية.
وقد يبدأ باستفهام وينتهي بجملة فعلية:
"ماذا صنعت؟
يسألاني
منكر ونكير
الحياة آمال لا تنتهي
أحياها الموت".
البداية والنهاية في الهايكو هي ريشة الفنان التي تصنع لوحة الحروف، لذلك لها أهمية بالغة عند كتابة نص الهايكو فإن تعثر الكاتب في النهاية والبداية تحطم النص وتبعثره مضمونه وقوته وقدرات الشاعر واتساع اطلاعه ورحابة خياله هي من تخلق وترسم بدايات ونهايات بإدهاش ومباغتة وليس للبدايات والنهايات قواعد محددة.
إذن، قدرات الكاتب الشاعر واحترافية خياله وثقافته هي من تخلق نهاية مدهشة وبداية موفقه تصلح أن تكون أيضا نهاية..
أخيراً.. قد يسأل القارئ، هل لكل نص من نصوص الهايكو عنوان مستقل؟
نعم فالشاعر البارع يعنون النص، وهذا ما يسير عليه الشعراء الذين يتسابقون في باللغات الأجنبية والمسابقات التي تنظمها المراكز المهتمة بمثل هذا النوع من الشعر.
وآخراً، تميز النص الذي بين أيدينا بالسرعة والتكثيف والإدهاش واللغة الشعرية وحتى فلسفة المشهد:
"أوراق الربيع
تزهو في صمت
بلاغة الجمال".
والجمل القصيرة الخالية من الفواصل وتناول الذات والمشاعر وعكس النص الصورة بحالة من التوحد:
"نجم متلألى
يسبح بالسحر
روح مضيئة".
والوطن أيضاً نال حظاً من المشاهد سواءً من حيث الطبيعية والجغرافيا أو من حيث ما يمر به من أحداث:
"فراشات تتهاوى
وسط النيران
أحلام الوطن".
ومواسم الحياة والأمومة والطفولة:
"وجدتها
طفلتي المدللة
أعيشها فرحة".
"معلومة مثيرة
تحفظها مقلوبة
ذاكرة طفلي"
ومواسم العبادة:
"غادرت بلطف
هذا العام
ليالي رمضان".
فهذا نص شامل مكتمل...
سادساً: الهايكو والأجناس الأدبية
وإذا خاضت القراءة في الأجناس الأدبية فإن الهايكو يلتقي مع قصيدة النثر من حيث رمزية الصورة وشتات الدلالة والمفارقة، ويتداخل مع النصوص السردية، كالقصة القصيرة جداً في الخصائص من حيث. الاختزال والتكثيف والمباغتة والرمز والتلميح والشعرية والمفارقة لكنه شعر وليس سرداً، فيلتقي في الخصائص والقصر وليس في الجنس..
كل الأماني الصادقة للشاعرة بالتوفيق.
وتعتبر المجموعة أول إضافة جديدة للمكتبة اليمنية في شعر الهايكو..