كتابات

السبت - 18 أبريل 2020 - الساعة 08:05 م بتوقيت اليمن ،،،

مدة الثقافي/ تأليف: بسام شمس الدين*:


(حكت لنا جدتي عن شبح يلوح في الظلام عند أطراف مقبرة "الحافة"، وأشخاص آخرون ظلوا يرددون ذلك طوال الوقت، والقرويون يعجبهم أن يقصوا مثل هذي الحكايات المخيفة للأطفال، وحين كبرت رافقتني هذه الحكاية، وكنت في حين أصدقها، وفي حين آخر استبعد حدوثها، واستغرب أن تدور هذه القصص في القرى، ولا نكاد تسمع أحداً ممن يسكنون المدن يخبرك عن شبح رآه في السوق أو الحي الذي يقطنه، دار هذا في ذهني، واهتممت بأمر هذا الشبح بشكل بالغ، وسبب اهتمامي هو أنني ممن يخافون من الأشباح، رغم إيماني العميق بأنها ليست سوى خرافات، لكن المقابر تبدو مخيفة بشواهدها المبعثرة، تحيط حولها غلالة من الأسرار والحكايات التي سطرت عن عذاب الموتى، وهي أمور عصية عن الإدراك، وتترك في النفس أصداء مزعجة، وكتبنا الدراسية لم تكن بريئة من نشر هذي الأمور المخيفة، ولسبب يعلمه الله أردت أن أدور على الشيوخ المسنين لأسألهم عما يعرفون عن شبح مقبرة "الحافة"، كانت حقولنا تقع في طرف الوادي البعيد، وأضطر إلى اجتياز طريق ملفوف وامشي حول القرية لأبلغها، وكل ذلك لأتفادى المرور من مقبرة الحافة، وهي الطريق الأقرب، ومرورها يوفر علي كثير من الوقت والجهد، كان طريق المارة قديماً يقع في طرفها الخلفي بعيداً عن القبور، لكن شخص طامع ضم ذلك المتر المربع إلى حقل يملكه بالجوار، وصار على المشاة أن يعبروا وسط المقبرة التي طواها النسيان وأهملت من الأهالي، ونبت على أجزاء منها التين الشوكي وأشجار الصبار التي تلوح منصبة من بعيد كأشخاص عمالقة، وأخبرني غالبية من سألتهم أن قصة الشبح قديمة ومعروفة، وأنهم رأوه واقفاً بأطراف المقبرة، مرتدياً كفناً أبيض، ويعتقدون أنه شبح شخص يدعى مبخوت كان يحرس المقبرة منذ زمن غابر، وظلت روحه هائمة في المكان، وقيل أنه طيف رجل مظلوم قتل دون أن ينصفه أحد.

وكان حمادي أكثر الأشخاص امتلاكاً للحكايات المخيفة عن المقبرة وما يدور فيها من أمور رهيبة، وهو فلاح قوي الحواس في الخمسين من عمره، يملك حقلاً كبيراً من المشمش مجاوراً للمقبرة، ويحرس محصوله على الدوام من اللصوص لاسيما في الليل، أخبرني أنه يسمع أصوات أنين الموتى المعذبين في الليالي حالكة السواد، وأنه رأى سلسلة حمراء نزلت من السماء ووقعت على قبر شخص من الوجهاء القدماء يدعى يحيى بن أحمد، وهو رجل حسود قاسٍ لا يرحم الإنسان والحيوان والنبات، عاش في القرية قبل قرنين من الزمن، ويقال إنه قطع ثدي بقرة أجيره الفقير بالمنجل، وصرم الزرع قبل أن ينضج ليحرم المزارع المسكين من المحصول. ولم يكن حمادي يبتسم أو يبدي وجهاً مرحاً حين يحكي ذلك، بل يبدو جاداً متجهماً. وهذا يجعل حكايته لا تقبل الشك. وفي يوم أخبرني صديقي غالب، ضاحكاً، أن العم حمادي ينشر تلك الحكايات المخيفة، ويدع مبخوت حارس المقبرة المزعوم يحرس محصوله نيابة عنه، ويعود متسللاً إلى منزله لينام في مطلع الليل، وقد رآه أكثر من مرة يفعل ذلك. ولم يكن بوسعي إلا أن أقبل هذا الكلام، بل وجعلني صديقي أشعر بالحقد على هذا الفلاح الذي يرعبني بحكاياته المضللة، ويدعني أقطع مسافة شاسعة لأحرس محصول حقلنا البعيد. وقررت أن أجازف وأمشي من طريق الحافة. وسرت ماشياً باطمئنان، واجتزت المقبرة بشجاعة عند الساعة الثامنة في المساء، وفي يدي مصباح يدوي، ولكني لم أوجه ضوؤه إلى أي مكان آخر سوى إلى الطريق المرسوم بدقة متناهية، ولم أسمع شيئاً لحسن الحظ، وحين خرجت من المقبرة حسبت نفسي بطلاً وبلغ زهوي منتهاه، وقلت لنفسي لا يوجد أشباح يا حمادي الماكر.

عند منتصف الليل، حضر حراس المزرعة القريبة، وتكفلوا بالحراسة، وكان علي أن أغادر. وعدت من حيث جئت متجاوزاً خوفي، وأحاول أن أتسلح بحماسي السابق وأتشبث بقوة أعصابي، وحاولت أن أتجنب التفكير بالحكايات القديمة عن الشبح اللعين، لكن الميقات كان ملعوناً أيضاً، والبيوت كانت منطفئة وتبدو بعيدة وساكنة، والكلاب تعوي من بعيد، وبومة خبيثة أخذت تنعب، والحشرات تعزف موسيقاها الرتيبة، وظهرت أشباح الصبار جاثمة متجهمة عند أطراف المقبرة، وبدأ قلبي يطرق بقوة حين دارت في ذهني حكاية السلسلة الحمراء الساقطة من السماء على قبر الرجل الغشوم يحيى بن أحمد، واقشعر جسدي عند شاهد قبر هذا الرجل، ورفعت بصري إلى السماء لأتأكد من خلوها من سلسلة أو ما شابه، وهنا تعثرت بحجر بارز على الطريق، وسقطت على الأرض، وتهشم مصباحي اليدوي على شاهد قبر، ونهضت بسرعة، وأخذت أسير بلا هدى، وعلق طرف معطفي الخلفي بشوك شجرة صبار، وخيل لي أن شخص ما يمسكني من الخلف، وسليت خنجري وطعنت الشبح حارس المقبرة، دون أن أجرؤ على الالتفات، ثم تخليت عن معطفي وقفزت إلى حقل العم حمادي، متجهاً نحو ضوء طفيف يلوح من مأوى الحارس، وصرت أنادي عليه مستغيثاً، حتى اقتحمت مأواه الصغير، ووجدته فارغاً إلا من فانوس يشع منه بصيص من الضوء، فأغلقت المأوى خلفي، واستلقيت لاهثاً على فراش قديم تفوح منه روائح الفلاح الماكر، وتدثرت بغطاء خفيف، وبقيت معرضاً للبرد أفكر في الشخص الذي أمسكني وطعنته بالخنجر، وخشيت أن يكون أحدهم أراد أن يستفزني ويخيفني، وهذا النوع من المزاح الخشن لا يستبعد أن يحدث في الريف لاسيما في قريتنا التي يقطنها كثير من الأوغاد الذين يصنعون مثل هذي المقالب البغيضة، وفي تلك اللحظة كنت غاضباً، وقلت لنفسي: يستحق الوغد ما جرى له. وهكذا شعرت بالاطمئنان ونمت، وفي الصباح أيقظتني أشعة الشمس التي تسربت من نافذة المأوى، ووخزت جسدي كالإبر الصغيرة، فخرجت مرتبكاً، وشاء الحظ أن ألتقي بالعم حمادي قرب المأوى، فأجفل وصرخ بقوة:
"ماذا تفعل في حقلي؟"
قلت بالكاد:
"لا تخبر أحداً، أخشى أن أكون قتلت شخصاً ما البارحة، اتبعني".. وحكيت له ما دار في الليلة الفائتة، وكانت ثمار المشمش متدلية ناضجة على الفروع المنحنية، فظل الفلاح يتفرس في أشجاره خائفاً أن يكون محصوله قد نهب، ولاح في عينيه ارتياب غريب، وحين وصلنا إلى وسط المقبرة رأى معطفي والخنجر مغروزاً عرض شجرة صبار ولاح خيط من سائلها الأبيض نازفاً، فضحك بصوت عالٍ ثم صمت، ونظر إلي وقال بانفعال مفاجئ:
"ألم تجد مكاناً تهرب إليه سوى حقلي؟".

قلت بنزق:
"وهل كان لدي شعور في تلك الساعة؟ لقد رأيت ضوءاً فهربت إلى مأواك مستغيثاً".

بدا ساهما للحظات ثم انفجر ضاحكاً وقال بتشفٍ:
"لنكتم ما حدث، لأن هذا سوف يجعل منك أضحوكة، وسوف يجعل مني عرضة للسرقة".

"اتفقنا يا عم حمادي".

وصافحته للتأكيد على هذا الاتفاق الغريب، فقطف لي بضع حبات من المشمش، للتأكيد على حسن نواياه وطيبته، وعدت إلى المنزل وأنا أقضم مشمشة شهية الطعم، ولم أروي شيئاً حتى فارق العم حمادي الحياة.).

*روائي يمني – من صفحته في الفيسبوك