فنون

الإثنين - 20 أبريل 2020 - الساعة 08:34 م بتوقيت اليمن ،،،

مدى الثقافي/ كمال القاضي *:


النص السينمائي لفيلم �الفيل الأزرق2� هو بالضرورة ترجمة حرفية للتماس الأدبي مع لغة الصورة وفنية الحوار ومُكسبات الطعم السينمائية بتوظيفاتها المختلفة، وقدرة المبدع على تحريك الأحداث والشخصيات في اتجاهات متعددة داخل وخارج الفكرة الرئيسية للعمل الفني.

النص الذي كتبه أحمد مراد في الجزء الثاني من فيلم �الفيل الأزرق� كان بمثابة تأكيد لقاعدة التجاوب بين الجنس الأدبي بكل مركباته، واللغة السينمائية، كوسيط لفك الشيفرات الصعبة في ما يتم تناوله أدبياً، ويصبح فهمه عصياً في بعض الأحيان على القارئ العادي. وهذا النوع من الإبداع جرى تجريبه في بعض النماذج من الأفلام، في مراحل مبكرة جداً من عمر السينما المصرية، ربما يبرز من بينها فيلم �سفير جهنم� ليوسف وهبي ومحمود المليجي، حيث استهدفت الفكرة الرئيسية نفي المنطق في طرح العلاقة المستحيلة بين الإنسان والجن، كمصدر للقوة الخارقة التي تسيطر على الإنسان، وتدفعه في مدار اللامعقول، فيأتي بما يشبه المعجزات في كثير من الأفعال، وقد أدى الفنان زكي رستم دوراً آخر مميزاً في هذا الإطار، في بطولة ليست مختلفة عن سابقاتها.

وفي تجربة حديثة نسبياً للمخرج خالد الحجر، قدم فيلم �شوق� مع سوسن بدر، حيث جسدت شخصية الأم المصابة بالصرع، كتشخيص مرضي مُعلن، بينما أشارت التفاصيل الدرامية إلى المس الشيطاني الذي اعتراها فغير من طبيعتها وسلوكها، وجعلها أقرب إلى اللغز، وهي حالة التباس كانت بالقطع مقصودة، للمرور على المعنى الدلالي لها باعتبارها من الغرائب.

أما ما يختلف في فيلم �الفيل الأزرق 2� لكاتبه أحمد مراد ومخرجة مروان حامد هو ذلك التطوير والتضمين للفكرة بكل أبعادها، وما تحتمله من مستويات فلسفية وميتافيزيقية ومرضية، لاسيما المستوى الأخير، كونه الأقرب للتصديق في مسألة اقتران الأعراض المرضية للشخصية المصابة بالهلاوس السمعية والبصرية، بما يُفسر أحياناً بأنه مس شيطاني، أو اتصال روحاني بالعالم الآخر، أو ما شابه، فهناك اجتهادات للتحليل اعتنى بها الكاتب، في سياقات طبية ونفسية وتأثيرية متعارضة، فالدكتور �يحيى� (كريم عبد العزيز)، طبيب نفسي متخصص، وله إنجازات في كشف ملابسات الحالات المستعصية، ولكنه يقف عاجز أمام حالة �فريدة� (هند صبري) فيتجه إلى التفكير خارج منظومة التشخيص العلمي، بافتراض وجود مؤثرات غير مرئية وغير ملموسة، تحرك الشخصية المريضة وتتحكم في سلوكياتها، وتدفعها لارتكاب الجرائم. وهذا البعد يتشابه مع ما طرحته السينما المصرية أيضاً من حالات التنويم المغناطيسي، كما في فيلم �منزل رقم 13� لعماد حمدي ومحمود المليجي، على سبيل المثال، وتكرر في أفلام أخرى كثيرة لاقت رواجاً في فترة الخمسينيات والستينيات لشدة غرابتها آن ذاك.

نعود إلى �الفيل الأزرق� وماهية ما يطرحه، ابتداءً من العنوان ذاته والمأخوذ عن اسم عقار الهلوسة المُسمى بحسب التوصيف الدرامي بالاسم نفسه، وهو الكبسولة الزرقاء الذي يؤدي تأثيرها إلى دخول من يتعاطاها في عوالم غرائبيه، يتخيل فيها أشياء ويصادف كائنات بحرية وسماوية وأرضية، تبعاً لقوة التأثير ومدته، وما يدور في رأس المتعاطي أو المُدمن نفسه، وهو تسليم كامل بإمكانية تحول الشخص من حالة لحالة مغايرة تماماً بفعل العقار المُخدر، وتلك الجزئية بالتحديد تتطابق بتفاصيلها مع فيلم الرقص مع الشيطان الذي قدمه نور الشريف قبل ثلاثين عاماً تقريباً، والمأخوذة فكرته كذلك عن قصة �العنكبوت� لمصطفى محمود، التي تناول فيها غموض الحالة المرضية المثيرة، التي يدخل فيها البطل بعد حقن نفسه بمحلول كيميائي معين في أطوار وأجواء غريبة، تعبر به أزمنة مختلفة يلتقي خلالها بالشخصيات التي يريدها، أو يفكر فيها بعقله الباطن.
وتفيد المقارنة بين كل ما سبق من النماذج المذكورة سلفاً، بأن ثمة قضية حقيقية شغلت الكُتاب وصُناع السينما، في ما يخص الظواهر الكونية أو المرضية التي يتعلق بعضها بالأشخاص أو بالكائنات، سواء كانت حقيقية أو مجازية، بغض النظر عن طبيعة التناول الواقعي أو الفانتازي، فهي على جميع المستويات مواطن جذب تستدعي التأمل والتفكير، فضلاً عن أنها تقبل التنويع وتسمح بخلق مساحات إبداعية من الإثارة وهو بالفعل ما تحقق بجدارة في الجزء الثاني لفيلم �الفيل الأزرق� الذي بلغ حداً غير مسبوق من الإقبال الجماهيري، ليس لأنه جمع بين عدد من كبار النجوم والنجمات، وإنما لأنه تجاوز الشكل التقليدي لتوظيف الفكرة، وقدم معالجة توازت فيها خطوط الواقعية السحرية، مع خطوط التراجيديا الإنسانية لمحنة الشخصية المريضة، التي لعبت دورها ببراعة هند صبري، فضلاً عن التداعيات الكابوسية للدكتور يحيى ونيلي كريم، والمصائر التعيسة للشخصيات الأخرى، كإياد نصار وخالد الصاوي بوصفهما بطلين آخرين للأحداث المأساوية، وهو تنويع مقنع للأزمات التي طوقت جميع الأطراف وللإحساس بعمومية التأثير السلبي وضيق الدائرة على كل من فيها.

وقد ساعدت التقنيات الحديثة للتصوير والإضاءة وبراعة الموسيقى التصويرية، ودقة المونتاج في وصول الحالة كما هي بكافة تفاصيلها المخيفة والمرعبة، وبدرجات الترقب والتصعيد المستهدفة، وهي علامات وأمارات التميز الإخراجي لمروان حامد قبل أن تكون دليلاً على التناغم بينه وبين كاتب القصة أحمد مراد.

٭ كاتب من مصر (القدس العربي)