كتابات

الإثنين - 27 أبريل 2020 - الساعة 10:40 م بتوقيت اليمن ،،،

مدى الثقافي/ عباس عبد جاسم*:


لعل أول قطيعة عنيفة مع قصيدة النثر العراقية، تمثّلت في «الأطروحة الشعبية»- 1994 و«جوائز السنة الكبيسة» 1995 للشاعر الراحل رعد عبد القادر، فقد كسرت هاتان المجموعتان النمط المألوف لقصيدة النثر، والخروج عليها كلياً على مستوى، عنف اللغة، وعنف الرؤية، وعنف الشكل، وكانت كل منهما صادمة للذائقة الشعرية.

لقد أطاحت «الأطروحة الشعبية» بالبلاغة السلطانية والمحسنات الأسلوبية، وخلخلت اللغــــة الفصحى باللهجــــات العامــــية، ما اســــتدعى إلى ذهن القارئ دعوة عباس بيضــــون لـ«تفكيك الفصاحة العربية» (عباس بيضون/ الشعر لم يبدأ بعد/ جريدة السفير اللبنانية)، التي كانت امتداداً لِما سماه يوسف الخال بعجز اللغة الفصحى الناتج عن الاصطدام بما سماه أيضاً بجدار اللغة. ورغم أن دعوة عباس بيضون تضمّنت نزعة خطيرة في تدمير النواة العربية للفصاحة العربية، فانها لا تخلو من نزعة إصلاحية لتحرير الشعر واللغة والحقيقة من الأيديولوجيات الغائية.

أما «جوائز السنة الكبيسة»، فقد أطاحت الشكل الشعري المألوف، باستخدام شكل المخطوطة العربية الإسلامية، وهي منسوخة بخط اليد، مما كانت تمثل كتابة شعرية مركبة من نصوص ميثولوجية ورسموية وطباعية، وفق عمل مركب بحساسية جديدة مضادة تماماً لقصيدة النثر.

ويتجاور في هاتين المجموعتين ما لا يتجاور، من تنافذ الأشكال، وترافد الاجناس، لإنتاج بنية تشاكلية لا مبنية بتعبير كمال أبو ديب. وقد تلقف رعد عبد القادر شيفرات النص بنزعة متمرّدة، تقترن برؤية عابرة لقصيدة النثر، قبل خروجه عن العائلة الشعرية التي ينتمي إليها في السبعينيات.
وإن كان أنسي الحاج نعت الشاعر بالجنون في مقدمة «لن»، ودعا إلى ممارسة «التخريب المقدس»، فإن «جوائز السنة الكبيسة» تمثل المرحلة الأولى لجنون الشاعر، وتمردّه على قوانين عمل القصيدة المألوفة، بخلخلة منطقها الداخلي، وتهشيم إطارها الخارجي، ومن ثم الخروج عليها بـ«شكل الأشكال» أو ما سماه بـ«نص النصوص»، وهو بنية سامقة في هرم الكتابة النصوصية.

وفي المرحلة الثانية اصطلح على تسمية الأطروحة الشعبية بنص في الكتابة الشعرية الجديدة، وهي كتابة هرمسية متقلِّبة، متغيّرة، متبدّلة، لم تستقر عند حدود قارة. ويمكن أن نعد «نص النصوص» لـ«جوائز السنة الكبيسة»كتابة شعرية عابرة لقصيدة النثر، لأنها تمثل أعلى تمرّد في سياق تطور قصيدة النثر العراقية. إن الكتابة الشعرية، كتابة تسعى إلى تحويل القصيدة إلى (كتابة) لا مركز لها ولا نهاية، كتابة بلا قياس، ولا قانون يحكمها، إيذاناً بمرحلة جديدة من الانتقال إلى ما بعد قصيدة النثر. كما تسعى شعرية الكتابة الشعرية الجديدة، إلى زحزحة شعرية الكلام والصوت بالتشكيل البصري، لتوزيع البياض والسواد على سطح الورقة، ابتداءً من تحرير المفردة من موقعها من السياق، ومنحها وظيفة جمالية أكثر منها دلالية في إنتاج معنى آخر للشعرية، ليس بالضرورة أن يرتبط فيها الدال بالمدلول. ونوجِّه عناية القارئ الى أن «جوائز السنة الكبيسة» و«الأطروحة الشعبية» لا تنتميان إلى قصيدة النص، ليس لأننا نرفض التوفيق بين النص والقصيدة، بصيغة التلفيق بينهما، وإنما لأن الكتابة الشعرية الجديدة ـ تتعالق مع قوانين عمل النص بقوانين عمل أخرى.

لقد حدّد بارت النص بوصفه «قوّة متحوّلة، تتجاوز جميع الأجناس أو المراتب المتعارف عليها، لتصبح واقعاً نقيضاً، يقاوم الحدود وقواعد المعقول والمفهوم»، وصولاً إلى «النص المفتوح»، كما اعتبر بارت النص «ممارسة تهدف إلى خلخلة الأجناس الأدبية» (من الأثر الأدبي إلى النص ترجمة عبد السلام بن عبد العالي ). ولكن قبل مقاربة «الأطروحة الشعبية» نشير إلى أن الكتابة الشعرية، لا يمكن أن تحقق حيازة جديدة من دون إتقان قواعد اللعب، خاصة اللعب الحر، فقد عرّف بول فاليري الشعر بـ «أنه لعب بالكلمات وباللغة لا بالمعنى المجازي، بل بالمعنى الحرفي والحقيقي للفظ اللعب» (يوهان كوتسينغا / ديناميكية اللعب في الحضارات والثقافات الإنسانية/ ترجمة صديق محمد جوهر). وبذا نرى أن اللعب في «الأطروحة الشعبية» حاضر إلى أقصى الحدود، من حيث اللعب على الدوال، وبالمدلولات أيضاً، وكيفية صياغة الأفعال المتحرّكة بدلالات: التنثير والتذرير والتشذير، وبما جاءت به السيريالية من طرق لتحرير دوال الكتابة الشعرية من المدلولات ورقابة الوعي.
وإن كان كمال أبو ديب، قد حدّد جماليات التجاور في «أنها جماليات تنقض أو توجد في فضاءات لا علاقة لها بفضاء جماليات الوحدة» (كمال أبو ديب / جماليات التجاور وتشابك الفضاءات الإبداعية) ، فإننا نعني بـ«تجاور ما لا يتجاور» في جماليات التعالق بين الأضداد المتجاورة، كالتنافر بين الكلمات والمعاني، أو بين الدوال والمدلولات في الكتابة الشعرية الجديدة، التي تقود إلى إلازاحة والإبدال، وبذا يتجاور ما لا يتجاور من العامية والفصحى، وما تنطويان عليه من تعالقات بنائية متباينة متعارضة: المعقول واللامعقول/ المؤتلف والمختلف/ المركزي والهامشي/ الاستثنائي والعادي.

ومن أهم سمات هذه الكتابة الشعرية: الحياد، كحد فاصل بين الفوضى والنظام، حيث يمثل الحياد نقطة التوازن بين التدمير والبناء، كتدمير «البلاغة السلطانية»، وبناء عالم يتجاور فيه ما لا يتجاور من (الأضداد)، لتتعايش فيه تناقضات الواقع مع جماليات الحياة على سطح واحد. ورغم ما تميزت به «الأطروحة الشعبية» من إزاحات وإبدالات، وفق بناءات تركيبية وإحالات مرجعية، فإن ما يعنينا منها: ليس الكيفية في دمج اللهجات العامية بمجازات الفصاحة العربية، وإنما الكيفية في تفجير مخزون «الحثالة» الشعبية، ومن ثم إدغامها في الفصاحة العربية، بأسلوب مراوغ، يتجاور ما لا يتجاور فيه من ثنائيات ضدية. في هذه «الأطروحة الشعبية» يتناسخ الفلكي بوصفه كائناً مفكَّكاً برموزه الشعبية: (مخبّل/ مطيرجي / لطّام/ مواكبي/ عزائي/ جرخجي/ جنائزي/ لمبجي/ قصخّون/ نباش/ منجّم/ نسطوري/ نسواني/ شقشقي/ لبلبان/ صعلوك/ مهرّج..).

ولكن هل الفلكي قناع لا شخصي للشاعر؟ إن كان غير ذلك، فمَنْ هو؟

هو دائماً يضع في فمه بوقاً إسرافيلياً ويضع في يده خشخاشة يخشخش بها/ للقرون المظلمة/ إنقلابي فظيع/ إنقلابي بديع (الأعمال الكاملة).

وبذا يتجاور ما لا يتجاور في اللعب بالضمائر المتبادلة بين الشاعر والفلكي: فلك أنا فلك / فلك هو فلك / فلك أنت فلك (الأعمال الكاملة)
ويتجاور ما لا يتجاور أيضاً من العامي والفصيح:
(مطيرجي أعمى) أو (والموت يطق بعلكو ويدغدغ المطيرجي بلسانو)
وتختزل أصابع الفلكي تجاور ما لايتجاور من الفصحى والعامية وفق ثنائية ضدية:
أصابعه / أصابع تتكلم بلهجة عامية طمغاتها فصيحة.
وبقدر ما تقوم هذه الشعرية بـ«تشويش الحواس»، فهي صادمة للذائقة الشعرية، وهنا تكمن جماليات تجاور ما لا يتجاور من فصام اللغة، وازدواج الدلالة بين الشاعر والفلكي، وهما وجهان لصورة واحدة متعدّدة:
أنا نورك خبلني/ أنا نورك ترس ماعوني. ويمكن أن نلحظ أن «أنا» هنا تتكرّر خارج موقعها من سياق كل جملة، لأنها (أنا تشاكلية) تتجاور ما لا يتجاور معها. إذن، ثمة كتابة شعرية مراوغة، يتجاور ما لا يتجاور فيها من الفصحى والعامية، حيث تهدم إحداهما الأخرى بقصد البناء، لتحقيق أقصى سياقات الإزاحة والإبدال بين ثنائيات الأضداد.

٭ ناقد وكاتب من العراق (القدس العربي)