كتابات

الإثنين - 11 مايو 2020 - الساعة 12:48 ص بتوقيت اليمن ،،،

مدى الثقافي - كتب/ علي عبدالله العجري:


قال أحدهم (الصمت أساس الحكمة)، والمقصود هنا العزلة الإيجابية أو الصمت المفضي للتأمل واستجلاب الأفكار، وهو من ضروريات الإلهام عند أكثرية الكُتاب، بل إن الصمت عند بعض الشعوب طقوس دينية كما في الكنفوشية والزرادشتية والبوذية.. وللصمت (العزلة) أساس، أيضاً، في الديانات السماوية الثلاث: اليهودية والمسيحية والإسلام. بل إن الخلوة والصمت والتأمل كانت من إرهاصات نزول الوحي على نبينا محمد، عليه الصلاة والسلام، في حادثة غار حراء بأحد شعاب مكة، كترويض نفسي غير مباشر لتلقي الأمر الإلهي بالنبوة ولم يقطع حالة العزلة هذه إلا الأمر بكلمة اقرأ.

إذاً، من الوجاهة الربط بين الإبداع والكتابة بكل أشكالها وبين الصمت والعزلة التي تجلت في حالات كتاب ومبدعين حول العالم قديماً وحديثاً، منها الحالة الإبداعية عند نيتشه التي اولدت لنا سفره العظيم (هكذا تكلم زرادشت.. كتاب للجميع ولغير أحد) وفيه نجد على لسان زرادشت (فر إلى وحدتك يا صديقي).

ومن الملاحظ أن نيتشه لم يختَر زرادشت لكي يبث على لسانه الفلسفة النتشوية مصادفة وإنما عن وعي وإدراك، ولا يخفى على مطلع أن زرادشت هو نبي العزلة والتأمل.

وتقول الأسطورة إن زرادشت كان شاباً أو أميراً مدللاً لكنه مولع بالماورائيات، وفجأة اختفى عن قومه وتاه في الأرض بحثا عن الحقيقة متنقلا من آسيا الوسطى إلى فلسطين ثم عاد إلى أرمينيا ومنها إلى شمال شرق إيران الحالية حتى وصل إلى جبل (سبلان) حيث اعتزل هناك لفترة طويلة ولم ينزل إلا بعد أن أكمل تعاليمه لينتقل إلى التبشير بها بين الناس فيما بعد.

وتصبح أساس الديانة الزرادشتية، وتقوم فكرتها على الصراع بين الخير والشر والظلمات والنور ومن هذه الأفكار جاءت عبادة النار عند المجوس كرمز للنور.

هذه التعاليم استهوت نيتشه فاعتزل لدراستها وتحليلها لكن كعادته لم يرض إلا أن يكون مؤسسا لا تابعا. وتخيل لقاءً افتراضيا مع المعلم زرادشت في ذلك الجبل ليقول على لسانه تعاليم جديدة (هكذا تكلم زرادشت) وكان يحب ان يطلق على عمله هذا الانجيل الخامس محدثا بذلك ثورة على الدين والفلسفة والأخلاق والمجتمع وقيم الخير والشر. ثورة فكرية جلبت له كثيرا من المتاعب وأسست لمدرسة الفلسفة النتشوية التي ابتكر فيها ما سماه (الإنسان الأعلى) وهي المفردة التي التقطها (ادولف هتلر) من متن الكتاب ليبني عليها نظريته النازية مدعيا أن العرق الألماني (الآري) هو (الإنسان الأعلى) الذي بشر به نيتشه... والخوض في هذا الجانب طويل ومتشعب يلزمه مقال خاص به. ما نريده هنا هو الدلالة فقط على تلازمية الكتابة وعزلة الصمت الإيجابي الخلاقة للأفكار والأعمال الخالدة.

نذهب الى مثال آخر: العبقري دوستويفسكي الذي كتب للعالم أفضل الروايات وأكثرها غوصا في أعماق النفس البشرية. وكان للعزلة التي اشتهر بها فضل كبير على جودة وغزارة انتاجه الإبداعي.

كما كان الأديبان صموئيل بكيت وجيمس جويس أيضا من اشهر الأدباء صمتا وعزلة ومن اشهرهم أيضا في الاجادة والعمق.

العزلة لها كذلك تأثير واضح على المبدع العربي منذ وقت مبكرا جدا. مما جعل البعض يقول: لولا عزلة عرب الجزيرة في مجاهيل الصحراء ما ابدعوا ما عرف ب(الشعر الجاهلي) ومعلقاته الخالدة التي لم تكن ادبا رفيعا متفردا فقط. بل وكذلك سجلا للتاريخ والاجتماع في تلك الحقبة. ومن هنا أتت المقولة (الشعر ديوان العرب).

كانت الصحراء بصمتها الرهيب ولياليها الطويلة وامتداد رمالها العازلة عن الكون مكانا مناسبا لصفاء الذهن واشتعال جذوة الخيال لتتوالد بنات الأفكار، من وحي كيانات متخيلة ينسجها صفير الرياح في الفضاء الساكن اللا متناهٍ. سميت ب(شياطين الشعر) وكان لكل شاعر شيطانه الخاص به يملي عليه القصائد الطوال التي حولت المرابع القفر الى عوالم من المغامرات والفروسية والحكمة والحب والحرب.

وحتى بعد ان فُتحت للعربي البلدان ودانت له المدائن لم يتخل شاعرهم عن حقه في العزلة الإيجابية وإن بشكل مختلف (أَعَزُّ مَكَانٍ في الدُّنَى سَرْجُ سَابِحٍ .. وَخَيْرُ جَلِيْسٍ في الزَّمانِ كِتابُ) كما قال شاعر العربية الكبير أبو الطيب المتنبي، الذي أسمع شعره الكون وما زال (أنا الذي نظر الاعمى إلى أدبي .. وأسمعت كلماتي من به صمم).

العزلة، إذاً، ليست سلوكا سلبيا بالنسبة للتفكير والإبداع. بل محطة لإعادة الضبط وفتح أفق الحوار مع الذات والمحيط.
"ولأن الأنا بدائية كما يقول نيقولا برديائف، ولا يمكن أن تستمد من شيء أو ترد إلى شيء.. لذا، وفق رأيي، فإن العزلة تبدأ بنسخ سلسلة من الأحداث والمشاهد وحتى الأصوات والوجوه، وكأنها إشارات بدت مصطنعة ومعطلة بمرور الوقت، حتى تكتشف خروجك من الواقع، لأن العزلة بالأساس تدعم الخروج عن الواقع، وتبدل سمة الأفكار ومعانيها لديك، بوصفك حاوية لما يحدث، ومهمتك إيصال هذه الأحداث والمشاهد ولكن بعوالم جديدة، تعتمد على الإحساس بالمكان والوجود، وهو من الأمور التي تتأثر عادة بتراكم من الخبرات والتجارب".