تفاصيل

الخميس - 28 مايو 2020 - الساعة 07:30 م بتوقيت اليمن ،،،

مدى الثقافي/ مالك ونوس*:


بدا العالم وقد وصل إلى حافةٍ وضَعَه عليها فيروس لا يُرى بالعين المجردة، تبيَّن أنه لا يصيب الأجهزة التنفسية للإنسان ويُعلُّه، بقدر ما يصيب منظومة العالم الفكرية، وإرثه الثقافي والمعرفي، ويجعل كل شيء يتوقف عند حافّةٍ أو حدٍّ، لا يستطيع تخطيه، وإن تخطاه وقع في هوّةٍ غير مدرَكة القاع. وعندما وصل إلى هذه الحافة جعله الفيروس يدخل حالة الترقُّب، لتصير الحافة أشبه ما تكون بنهايةٍ، أو نهاياتٍ، ستأتي من بعدها بداياتٌ جديدةٌ، قد تقطع مع كلِّ المتراكمات والسرديات، وقد تكون مجرَّد فراغٍ يتمدد لكي يحضِّر الأرضية لإعادة ولادة الإنسان، الإنسان الذي امحى حين جرَّده عصر الاستهلاك من قيمته، يوم دخل في سيرورة الانتقال من الصلابة إلى السيولة حيث سيادة السطحية والمتع الوقتية. وليس من الضروري أن يكون زمن النهايات زمنًا للآلام، إذ قد لا يترافق المخاض بالآلام التي رافقت ولادته منتصف القرن الخامس والسادس عشر، حين بدأت المعرفة تعطي قيمة للإنسان وتعلي قدّرِ إنسانيته وعقله، هذه القيمة التي انهارت مع تشييء الرأسمالية المتوحشة كل ما وقع تحت يدها، ومنها الإنسان.

ليس من اليسير توقُّعُ ما سيأتي بعد الحد الذي توقف عنده العالم بفعل كورونا؛ إذ لم يعطِ الفيروس العالم الفرصة لكي يتجهَّز لليوم التالي، فقد باغت الكوكبَ، مفرملًا حركته، واضعًا إياهُ أمام الأسئلة الكبرى عن كنهِ هذا الإنسان الذي يعيش على ظهره. ولم تنجح الحصون التي ابتدعها الانسان في وقايته من الوقوف عند الحد، بدت المدينة وما قامت عليه من معابدٍ ومساكنٍ ومصحّاتٍ ومراكز أبحاثٍ وعلمٍ وأدبٍ وفلسفةٍ وأخلاقٍ، بدت ستارًا شفافًا أمام المُباغت الذي سيحضر، لا ريب، بعد انحسار الفيروس، أو حتى بعد تعايشه مع أجهزة الإنسان الصَّادَّة، أو تعايش الإنسان معه في تمظهراته التي قد يحدثها تطوره وطفراته الجينية وهو يتطاير في الأثير أو وهو يتجول في خلايا الإنسان.

أوقف الفيروس كل حركةٍ على الكوكب، ومع توقف الحركة بدأت النهايات تطلُّ برأسها، رأى الأمر المفكر ميشيل فوكو قبل عقودٍ، ولم يصدقه كثيرون. وعلى الرغم من أنه لم يكن يتحدث عن أثرِ الفيروس، لكن من المؤكد أنه لم يكن ليتخيل أن يتكفَّل فيروسٌ ما بمهمة الإغلاق هذه. لقد "ذاب كل ما هو صلب"، و"تدنَّسَ كل ما هو مقدَّس" كرَّسته الرأسمالية التي استبدلت القيم الكبرى بالأمكنة والأشخاص والأشياء والسلع. توقفت المدن الحديثة التي لا تتوقف، وربضَت طائرات الكرة الأرضية، على أرضٍ تنوء تحت ثقلها الطارئ عليها. وجهدت السكك الحديدية لمقاومة الصدأ الذي بدأ يغزو قضبانها بعد غياب القطارات التي كانت تجلوه. وارتفع السؤال عن المدينة وعن الحداثة وعن العمارات والأفكار وهل كانت كلها حقيقية؟ أم أن النزوع إلى الأجمل والأقوى والأعلى والأكبر والأكثر غنى، لم يفعل شيئًا سوى إسباغِ قشريةٍ على الجمال والقوة والرِّفعة والغنى حتى تخلخلت كل المعايير التي حدَّدت ما صنعناه وأَسَرَنا طيلة هذه القرون؟ الآن بالتحديد، وُضعت الحداثة موضع التشكيك بمقولاتها حول العلم والعقل والقيم والتقدُّم والهوية والحقيقة، فهل كانت ناقصة، أم قاصرة، أم أنها توقفت عند حدٍّ جعل مهمة إيجاد الحلول لمشكلات الإنسان، كلُّ مشكلاته معلقةً؟

صيَّر الفيروس هذه المدينة سجنًا لأبنائها. طوبى لساكني القرى والمنفيين في الأدغال، المتقطعةَ بهم سبل التواصل مع الحضارة والمعتاشون على ما يزرعونه أو يصطادونه. هؤلاء هم الناجون من لوثة الصخب والتواصل اليومي واللحظي، ومن البحث عن حيِّزٍ أوسع للجسد وسط الزحام وحرارة الأجساد المحيطة المتلاصقة في طوابير محطات القطار ومواقف الباصات وأمام محلات بيع التجزئة وإشارات المرور، المتخمةُ رئاتهم بالهواء الملوث، الهواء الذي قنَّنته المدينة بعد أن لوَّثته. ولم يبقَ لك في المدينة سوى الشرفات، وللشرفات في المدينة حدٌّ، ولِيَدِكَ الممدودة منها حدٌّ، إن تجاوزته قطعها لك الفيروس بمنشاره.

أجبر الفيروس نجوم مدينة الحداثة اللامعة، أجبرهم على التخفي. اختفى مصممو الأزياء وصانعو العطور الفاخرة والمجوهرات والأزياء ونجوم السينما والغناء وأصحاب شركات الإنتاج الفني. واختفى نجوم كرة القدم والدعاة الدينيون الجدد الذين يتبعون لشركات الانتاج التي لها نفسها يتبع المغنّون. كما اختفت عارضات وعارضو الأزياء ونجوم تلفزيون الواقع، لقد كنَّستهم المدينة جميعًا، مثلما كنَّست من قبلُ عاصفةُ محمود درويش "صوتَ العصافير البليدة" تلك العصافير التي ربضت على "الغصون المستعارة" التي كنَّستها العاصفة هي أيضًا. وبقيت المدينة ترنو إلى نجومٍ حقيقيين، هم نجوم إنتاج القمح والبطاطا الذين بقوا خارج حدّها ولم يلوثهم لمعان أنوارها. كما صارت ترنو إلى أبطال حقيقيين، أصحاب الزي الأبيض في المشافي، والذين همَّشتهم حين أسبغت أنوارها ونياشينها وذهبها على نجوم كرة القدم المتوارين عن أعين الفيروس في جزرهم القصيّة في البحار والمحيطات.

قد نستفيق بعد فترةٍ قصيرةٍ، لنكتشف أننا كنا نعيش في ظلِّ قرونٍ وسطى مستجدّةٍ، ليست وسائل النقل الحديثة والتكنولوجيا المتطورة والصناعات الجبارة والإعلام سوى قشرياتٍ حاولت أن تطغى، أو تغطّي، على هذه القرون الوسطى التي عادت تسكن زوايا العقول، حين ساد الخوف واعتلى حياتنا وعُدْنا عبيدًا له، مثلما كان سائدًا في تلك العصور. ولن نبحث كثيرًا من أجل الوصول إلى اكتشاف أننا بحاجة إلى عصر نهضةٍ جديدٍ يليق بالإنسان الذي استقام على رجليه، بكل بهاء العقل الذي ميَّزه عن المخلوقات الأخرى. أصبح لزامًا علينا أن نكتشف قوانين الوجود من جديد، لكي نتحرر من جديدٍ من الخوف، ربما نعود لنكتشف ما نقصنا، وربما نهتدي إلى ما زَرِبَ في المسير الطويلِ من قُرَبِنا مع الماء، إنه الإنسان، سقط على التراب الذي صيَّره الماءُ الزارب وحلًا. هل ما سيبدأ من هذه النهايات التي نقف في حضرتها بكل أبَّهةِ هشاشتنا، هو ما سيمد يده ليُخرج الإنسان من الوحلِ ويأخذه إلى أرضٍ جديدةٍ؟ ربما.

*ضفة ثالثة