فنون

الخميس - 28 مايو 2020 - الساعة 11:08 م بتوقيت اليمن ،،،

مدى الثقافي/ أحمد عساف *:


فيروز ذاك الحضور والألق.. ليس في عالم الغناء فحسب، بل في المسرح الرحباني أيضاً. في السينما قدمت ثلاثة أفلام، ستبقى للذكرى على مرّ العصور والأجيال، تجربة سينمائية على غاية من الأهمية، والتميز وذاك الخيط الساحر المرتبط بالبساطة والفطرية والعفوية في الأداء، على الرغم من أن هذه الأفلام الثلاثة، قام بإخراجها اثنان من عباقرة السينما العربية هما: يوسف شاهين، وهنري بركات. أفلام فيروز الثلاثة هي: بياع الخواتم، وسفر برلك، وبنت الحارس.
تلك الأفلام ذاكرة لبنان الجغرافية وطبيعته الخلابة.. هي أفلام تؤرخ للعلاقات الإنسانية والعلاقات الاجتماعية.. والعاطفية في ذلك الزمن الجميل.

فيلم (بياع الخواتم) هو ذاته النص المسرحي بجوهره ومكوناته الرئيسية، والأغاني والألحان ذاتها، والفيلم قيمة فنية فكرية وجمالية، وهي شهادة رائعة تضاف إلى سلسلة إنجازات ونجاحات فيروز والرحابنة. لم يبتعد السيناريو عن حوار النص المسرحي، إلا في بعض الحالات كإعادة ترتيب أغاني فيروز، وتعديل بعض المشاهد لخدمة الفيلم.

بداية الفيلم تتم بتصوير المشاهد داخل استوديو يحتوي على عدة لوحات جاءت منسجمة مع المشاهد البصرية التعبيرية، وساهمت في إيصال مقولة العمل، بعد ذلك تبدأ كاميرا المخرج يوسف شاهين بالتحرك في عدة اتجاهات، تقدم لنا جماليات بصرية ومتعة روحية، وينطلق صوت فيروز بأغنية: (أمي نامت ع بكير). صبايا وشبان في (حناتير) منتشون بالحب والفرح وهم منطلقون إلى الاحتفال (بعيد العزابية).

يعيدنا المخرج يوسف شاهين، إلى الاستوديو بأغنية فيروز (يا حجل صنين)، ونشهد كرنفالاً عذباً داخل الاستوديو، ودواليب لعربات قديمة، وقناديل ونوافذ مشرعة للبوح، وستائر يداعبها النسيم وكاميرا العبقري شاهين، ترصد هذه التفاصيل لتضيف حلاوة ومتعة، ومن ثم ينتقل بنا إلى جبل لبنان ذي الطبيعة الساحرة.

يأتي جوزيف صقر (راجح) من خلف الجبال إلى ساحة الضيعة وهو يغني بصوت جبلي عذب، ثم تنقلنا الكاميرا إلى مشهد ساخر بمرارة. مشهد المياه.. المياه التي كانوا يتقاتلون من أجلها، ها هم يلهون بها. يأتي رجال الشرطة لينهوا الموقف، لكن الأهالي يعلنون عن حالات لسرقات عديدة، فيتهمون راجح. تدافع (ريما- فيروز) عن راجح (يا جماعة.. مش معقول يكون راجح).

يقتادون ريما إلى خالها المختار (نصري شمس الدين)، وهي تستمر بالدفاع عن راجح، ثم تغني فيروز (يا مرسال المراسيل)، وثمة مناديل مزركشة تظهر مع صبايا الضيعة من خلف فيروز، مشكّلة لوحة تشكيلية مُبهرة لونياً محققة متعة بصرية.

إلا أن المختار نصري شمس الدين، يعقد اجتماعاً طارئاً، يستنفر الشاويش والبوليس للبحث عن راجح وإلقاء القبض عليه. يتحاور المختار وراجح وجهاً لوجه، ثم تذهب فيروز- ريما- مع راجح إلى ضيعة راجح، لأنها ستتزوج ابن راجح.
وقد أثبتت فيروز في أول تجربة سينمائية، أنها ليست سيدة الغناء فقط، ولا أنها أميرة على خشبة المسرح، وإنما أكدت أيضاً حضوراً آسراً في السينما، وعلى غاية من القدرة العالية على التمثيل، على وجه الخصوص مع عبقري السينما العربية يوسف شاهين.

يقول المخرج يوسف شاهين عن الأحداث الطريفة، التي حدثت أثناء تصوير فيلم (بياع الخواتم): أثناء تصوير إحدى لقطات أغنية (تعا ولا تجي) في فيلم (بياع الخواتم)، تدخّل عاصي الرحباني مؤنباً فيروز على حركات قامت بها أمام الكاميرا، فما كان مني إلا أن أبعدت عاصي عن مكان التصوير، ربما هم -أي الرحابنة- يفهمون أكثر مني في الموسيقا، لكن في مجال صناعة الأفلام، لا يمكن لأحد أن يتعامل مع نجومي بهذه الطريقة.

أما (فيلم سفر برلك - إخراج هنري بركات)، فيعود بأحداثه الدرامية إلى العام (1914م)، حيث تقوم الدولة العثمانية، مع بداية الحرب العالمية الأولى، بقطع القمح عن لبنان بقصد تجويع الأهالي لإضعاف مقاومتهم ولقهرهم، وكانت تجمع شباب البلاد وتسوقهم إلى المنافي وسُمّيت هذه المرحلة بـ(سفر برلك). يبدأ الفيلم بسير قطار على سكته، ورجال السلطة العثمانية ساخطون على الناس، ما يدفع الناس لتخبئة مؤنهم بعيداً عن أنظار العثمانيين. كاميرا المخرج هنري بركات - الذي يعتبر من أهم رواد السينما العربية- والمولع بأفلام كهذه، تقدم قصة قيمة، تتخللها لوحات فنية من الغناء والرقص. وكثيراً ما تمتعنا كاميرته بسحر طبيعة لبنان وسوريا.

فيروز (عدلة) يطلبها (عبده) للزواج. تبتسم، ثم توصيه بأن ينتبه لنفسه. بدأ العسكر (العثمانيون) بأمر من الباشا العثماني بقطع أشجار الأرز.

تركب (عدلة- فيروز) مع العم أسعد بالحنتور. يتبادل القبضايات مع الجنود العثمانيين إطلاق النار على سكة القطار. يأخذ القبضايات بنادقهم، ويحررون الأسرى الموجودين داخل عربات القطار، ويأسرون الجنود العثمانيين، ويأخذون ملابسهم. رفيق سبيعي، يمدّ القبضايات اللبنانيين، من الشام بالقمح. لعلّ الرحابنة اختاروا (أبو صياح) نموذجاً للدمشقي القبضاي الشهم. كشف لنا عاصي الرحباني، في هذا الفيلم، عن موهبة في التمثيل، على غاية من الأهمية والنجاح.

وفي العودة إلى مجريات الفيلم فإن (أبو صياح) يمتطي صهوة جواده عائداً إلى دمشق، ليعود بالإمدادات لقبضايات لبنان. وترتفع الأهازيج اللبنانية التي تندد بالاحتلال العثماني، والتي تطالب بإنهاء الاحتلال. وفيروز (عدلة) التي تنتظر حبيبها (عبده) تغني (يا أهل الدار). يتسلل جنود الاحتلال إلى البيوت لإلقاء القبض على عناصر القبضايات، ويقررون البدء بالتفتيش من بيت المختار، ومن المطبخ إلى باقي الغرف، والمدارج، والأسطحة.

يعود أبو صياح ومعه المؤن، وشعاره (الدم ما بيصير مي). هنا أيضاً تؤكد فيروز إتقانها لدورها، بل تترك بصمة سينمائية لا تنسى.

تقول فيروز: (الأفلام التي عملتها، بقي فيها كل الأشياء التي نحبها من الأمكنة والناس والشبابيك والأغاني).

وفي فيلم (بنت الحارس - إخراج يوسف شاهين)، فإن الحارس نصري شمس الدين يتجول في أزقة البلدة، وينبه الأهالي لأبوابهم المفتوحة.

نجمة (فيروز)، تذهب بالقهوة لأبيها ولزميله الحارس الثاني (صالح). (بالنهار نوم وبالليل حراسة) . مجلس المدينة - البلدة - يعقد اجتماعاً طارئاً، يقرر فيه إعفاء الحارس (أبو نجمة) والحارس صالح من مهمة الحراسة. (عاصي الرحباني- رئيس البلدية) لا يوافق ويرفض ذلك، لكن أعضاء المجلس يقررون وبالإجماع إعفاءهم لأنه لم يعد هناك في البلد (حرامية)، والبلدة تنعم بالأمان والطمأنينة، فما الدافع من وراء بقاء الحارس؟!

من طقوس بلدة (كفر غار) أن تقيم بلدية البلدة حفلاً سنوياً غنت فيروز فيه أغنية (يا عاقد الحاجبين). الحارس صالح يخرج ويتجه نحو أعضاء مجلس البلدة:(حفلة البلدية تصرفوا عليها ما فتح ورزق، ونحنا بتطردونا من شغلنا بحجة التوفير، بعد ما فنينا ليالينا سهر، جايين تدفنوا ليالينا). تعمل نجمة معلمة موسيقا في مدرسة ابتدائية، وفيما بعد تتجه إلى عاصي الرحباني - رئيس البلدية- وتطلب منه أن يعيد أباها إلى عمله فيوافق على أن تستطيع إقناع بقية أعضاء المجلس، تزورهم واحداً تلو الآخر لكن دون جدوى. فتتنكر نجمة بثياب رجل، تطلق الرصاص في الأعالي، فيدبّ الذعر في قلوب الجميع، يستنفر رئيس البلدية وأعضاء المجلس، بحثاً عن الرجل الملثم. تبدأ البلدية بتوزيع الكلاب على البيوت لتحميها من أبي الكوفية. فيما بعد يذهب رئيس البلدية والأعضاء إلى المينا، حيث يعمل أبو نجمة، يطلبون منه العودة هو وصالح إلى مكان عملهما. لقد اجتمع في هذا الفيلم (عاصي وفيروز وابنتهما ريما) وأبدعوا كثيراً، وأسدلوا الستارة على تجربة سينمائية مهمة وناجحة، أضيفت إلى سجل نجاحات الرحابنة.

* كاتب لبناني (الشارقة الثقافية)